تتصور أن الأسبوع سبعة أيام، وهو قصيرٌ جدًا رغم طوله عند الرحيل؛ سواء بالموت أو بالسفر، رغم أن الموت ليس هو النهاية! أما الشهر الذى كان يبدو طويلا جدًا ومزدحما بالأحداث، أصبح أقصر من المسافة بين الشروق والغروب.. كثيرون يرددون أن الوقت يمضى دون أن نُدرك، ورغم أنهم علمونا أن الوقت من «ذهب» فقد تحول إلى فضة.. أو حتى مجرد صفيح!
• • •
فى اليوم الأول تضطر للانتقال من مدينةٍ إلى أخرى عبر مدينة ثالثة من خلال مطارها كثير الازدحام عادة.. فالوقت صيفًا، والمدينة تغرى الباحثين عن فُسحة هنا أو هناك؛ إما قريبًا من البحر، أو حتى بهذه المدينة كثيرة الضجيج والإغراءات..
• • •
تعرف أنّ الصيف ليس موسما للسفر؛ فالمطارات تزداد ضجيجًا، وبعضًا من الفوضى، وطوابير الانتظار التى تبدو كالثعابين الملتوية على خاصرة البشر! ولكنه ذاك المنتدى السنوى الذى توقف بفعل الكورونا، وكان أفضل ما قام به القائمون عليه أنهم لم يحولوه.
إلى مسخ لقاءات واجتماعات «الفيرتوال»، أى عبر الزووم وأخواته!. هو يجمع بين المهتمين ببناء السلام والسلم فى مجتمعات انقضت عليها الحروب؛ فنهشت من تاريخها وحضارتها الكثير قبل أن تدمر كل قطعة من الحجر، وبين الوجوه المُتعبة القادمة من عمق الحدث، إلى الرجال البيض الذين يملكون الحل والربط فى السلم أو الحرب أيضا!!
• • •
بعد كثير من السفر بالطائرة ثم العربة وصلت إلى المنتدى الذى يسترخى فى حضن الخَضَار المُمتد على أطراف نهر هادئ بعيدًا عن المدينة ومطارها.. كثيرٌ من الوجوه مكررة، ومعظمها من رواد المؤتمرات والمنتديات، أو أولئك الصيادون القادرون على معرفة كيف ندفع بالآخرين إلى دعوتنا حتى لو لم نقدم شيئًا سوى كثير من المديح لهم ولدورهم المهم فى بناء السلم والسلام.. أو حتى فى جلد الذات لإسعاد الرجل الأبيض. فى الافتتاح تغيرت بعض الوجوه – فهذه حكومة مختلفة عن سابقتها بعد أن انتصر العمال على المحافظين – وبقى الخطاب متشابها، بل وبوجود الحرب الأوكرانية تحول إلى ما يشبه حملات التحريض المغلفة بعبارات العدالة الدولية وانتهاكات حقوق الإنسان وكثير من الخطابات التى تبدو للقادمين من «الجنوب» شيئًا من العبث، حتى نطق أحد الحضور «الشجعان» فقال هناك ازدواجية كبيرة فى المعايير الدولية، وما إن اندلعت الحرب فى أوكرانيا حتى وضحت الصورة أكثر، أو ربما برزت بشاعتها. فحقوق الإنسان والحق فى السيادة والخوف على النساء والأطفال واللاجئين والنازحين كلها معايير تختلف حسب الجغرافيا على أقل تقدير، إن لم تكن حسب العرق واللون. بدا المنتدى مختلفًا عندما وصلت طبول الحرب إلى خاصرة أوروبا، وكأن الحرب هنا تختلف عنها هناك، حتى القتل والموت، فكيف يتساوى الأسياد والعبيد؟! برزت فى الجلسة الافتتاحية صورة ربما شوهت بعضا من جمال ذاك المنتدى، ولن نقول نقاءه لأن كل من يعرفه يُدرك أنه لم يكن نقيا فى توجهاته، أو على الأقل فى اختيار بعض الحاضرين! ولكن يبقى الفرق فى المجتمعات الديمقراطية و«نحن» أن بعضهم أو بعضنا يستطيع وأمام الجلسات العامة وليس خلف الكواليس، أن يرسل الأسئلة التى تبدو محرمة عندنا جدًا جدًا!! وهذا الفرق بين أن تختار الشعوب ممثليها؛ سواء فى الحكومات، أو البرلمانات، أو أن تكون كلها معينة حتى لو اصطف الشعب بأكمله فى طوابير طويلة أمام صناديق الاقتراع، ففى نهاية الأمر لا يختلف البرلمان الجديد عن سابقيه سوى ربما ببضعة أسماء تبدو جديدة، ثم ما تلبث وأن تكتشف أن الوجوه هى الجديدة فقط والباقى كله «يبقى الحال على ما هو عليه»!.
• • •
فى المنتدى كثرت الأحداث الجانبية التى بدت أحيانًا أكثر رمزية لنا؛ فالوزير عندهم يصل وحده «لا شريك له»، أما بعض وزرائنا فكان الوفد المرافق أكبر عددًا من ما يحمله الوزير أو الوزيرة من أهمية، وهذا عدا الجوقات الأخرى المبعثرة بين أفراد هنا وهناك يسعون لكسب ود هذا الوزير/الوزيرة ربما لمنفعة قادمة!.
• • •
فى زحمة الصورة التى شوهت بعض الشىء ما يحمله هذا المنتدى من كثير من الأمل، رغم أن الأمل لا يعنى التفاؤل أبدًا، فكثير من الأمل يولد من رحم الخيبة ويبقى يضىء شمعتنا رغم الظلام. فى كل هذه الزحمة جاء الخبر فى رسالة مختصرة «البقية فى حياتك» ووقع كالسيف فى الأحشاء رغم أننى وإننا كنا نعرف بل ننتظر هذا اليوم منذ فترة، بعد أن قاومت هى الصغيرة المليئة بالحياة والحب وكثير من الأمل كومة من الأزمات والخيبات، هى التى قالت لن ينتصر ذاك المرض علىّ إلا أنه هزمها وهزمنا نحن معها، فمر شريط ذكريات كثيرة فيه ضحكتها تلك التى لم تعرف نيويورك رغم صخبها، مثلها. رحلت وبقينا نردد الموت ليس نهاية أبدًا.. كونى بخير حبيبتى فى حضن أمك وبين جنات لم تعد هذه الأرض تسعها، وكررت على نفسى «الله يحب الورد أو الملائكة» فيأخذهم ويبقى الآخرون يلوثون نهاراتنا!