أعتقد أن ما لمسته من ردود فعل وتجاوب مذهلة على ما كتبته عن بعض هموم وشجون لغتنا العربية، خلال الأسبوعين الماضيين، قد قلل بنسبة كبيرة من سقف الإحباط الذى كنت أعيشه وأنا أبث هذه الشجون! يبدو أن الذين يحبون هذه اللغة ويحرصون على بقائها بشكلها اللائق والمعاصر (لغة حية يتكلم بها عدة مليارات من البشر) ليسوا بالقلة التى كنت أتصورها، ويبدو أن هناك أملا كبيرا فى نهوض مرغوب بهذه اللغة من خلال جهود فردية مخلصة ومبادرات على مواقع التواصل الاجتماعى تعطى بريقا من أمل فى ما هو قادم.
وأتصور أن القطار لم يفت بعد! ما قرأته من تعليقات وما وصلنى من رسائل تجاوبا وانفعالا مع المقالين السابقين يجعلنى أقول مع أستاذى وصديقى خيرى دومة إن الأمل موجود وباقٍ.. لكننا نحتاج فعلا لمجهودات جبارة تتجاوز نطاق الشكوى ومحاولات التشخيص والرصد (مثلما فعلتُ فى المقالين السابقين) إلى مبادرات ومشروعات وفعاليات يمكن أن تكون خطوة على الطريق.. سأحاول هنا (وربما فى مقالات تالية) أن أشير إلى بعض هذه المجهودات؛ سواء على مستوى الأفراد (وهم الأغلب) أو على مستوى بعض المؤسسات (وهى الأقل).. وأما الجهات الأصيلة المعنية المنوط بها التفكير فى مثل هذا الأمر (فَيَدُك منها والقبر.. ولله الأمر من قبل ومن بعد!).
لا يفوتنى مثلا أن أذكر جهود مركز اللغة العربية التابع لجامعة القاهرة (يترأسه ويشرف عليه الأستاذ الدكتور خيرى دومة) الذى يعمل فى دأب وصمت وهدوء، بالرغم ما يحققه من نتائج فى إطار تعليم اللغة العربية ونشر الثقافة العربية للأجانب، صحيح أن جهوده تتركز بشكل أساسى على تعليم اللغة والثقافة العربية لغير الناطقين بها، لكنه فى النهاية يقدم تجربة تستحق النظر والاهتمام وتركيز الأضواء على النشاط الدائر فى هذا المركز المهم.
أما على مواقع التواصل الاجتماعى فثمة مبادرات رائعة وبجهود فردية خالصة، لاقت نجاحا كبيرا وانتشارا غير مسبوق، مثلا، مبادرة (اكتب صح) التى دشنها على «الفيسبوك» الصديق حسام مصطفى والتى أشاعت جوا رائعا من الإقبال على تحسين المستوى اللغوى وتفادى الأخطاء الشائعة فى الكتابة عموما والكتابة الصحفية بالأخص، ولعل أبرز ما يميز هذه المبادرة أن كسرت الأشكال النمطية الجامدة السخيفة فى التوجيه والتصويب اللغوى، ولأنها أخذت بالأساليب العصرية الحديثة فى شرح المسألة اللغوية وتبسيطها والإشارة إلى الأخطاء الشائعة وتصويبها بطرق ووسائل تتناسب مع رواد الفيسبوك وتبتعد عن أسلوب «العصا والسبورة» الذى ما زال يسود مدارسنا العتيقة حتى اللحظة!
صفحة أخرى دشنها الصديق الكاتب والشاعر واللغوى محمود عبدالرازق جمعة بعنوان (نحو وصرف) وهى من الصفحات المتخمة بمادة لغوية عظيمة، تركز على تركيب الجملة العربية، نحوا وصرفا، ولا تهمل الألفاظ المفردة، لكنها تركز بالأساس على النحو والصرف، وتقدم فى هذا الإطار مادة معروضة مشروحة بتفاصيلها الدقيقة لتشبع حاجة كل من يرغب فى فهم مسألة لغوية أو قاعدة بعينها أو استخدام بذاته، وهى بهذا تقدم خدمة جليلة ومطلوبة لعشاق اللغة العربية على «فيسبوك».
هذه عينة، مجرد عينة، لمبادرات مهمة وتستحق التحية والإشادة والتقدير، لكن كل هذا لا يعنى أبدا أن ننفض أيدينا بالكلية من السادة القائمين على تدريس اللغة العربية فى مدارسنا ومعاهدنا التعليمية الرسمية، أعلم أن الوضع سيئ، وأعلم أن أى محاولة للخروج على التقليد وتجاوز خطوط الكهف العتيق تواجه بمقاومة عنيفة وضارية، لكن هذا لا يعنى بالكلية الاستسلام وترك موضوع مثل تدريس اللغة العربية وتطوير محتواها التعليمى وتيسيرها للراغبين فى تعلمها من أبنائها وغير أبنائها، لهوى ومزاج قلة لا تفعل أكثر من اجترار أساليب بالية عفا عليها الزمن ولم تعد تجدى نفعا بل العكس!
أورد هنا وفى هذا السياق، هذه الحكاية التى أوردها الراحل رجاء النقاش فى كتابه الممتع «صفحات من مذكرات نجيب محفوظ»، يروى عن أديب نوبل الكبير:
«كان الشيخ عجاج من أوائل الذين لفتوا انتباهى إلى جمال التراث العربى وروعته وثرائه، ففى دروس «البيان» كان يستشهد بأبيات شعرية ــ وأغلبها من شعر الغزل ــ وبحوادث ليست فى المقرر الدراسى، وكنت أساله عن مصدرها فيدلنى على عيون التراث العربى، مثل: «البيان والتبيين» للجاحظ. وذهبت إلى مكتبات خان الخليلى وبحثت عن هذه الكتب طويلًا حتى اهتديت إليها، ونفعتنى قراءتها كثيرًا فيما بعد.
كانت العلاقة بينى وبين الشيخ عجاج ودية للغاية، وكان من المعجبين بأسلوبى فى الكتابة، كما اعتبر موضوعاتى فى الإنشاء نماذج تحتذى للتلاميذ، كان عندى اهتمام خاص باللغة العربية فى سنوات دراستى الأولى، وانعكس ذلك فى موضوعات الإنشاء التى كنا نقوم بكتابتها، وفى إجادتى لقواعد النحو والصرف. وإلى وقت قريب كنت أحرص على وجود قواميس اللغة العربية وكتب النحو بجوارى أثناء الكتابة، حتى أستعين بها إذا اختلط عليّ الأمر بين الكلمات الفصحى والعامية».
أورد هنا هذه الحكاية لكى أقول إن سبب ما نحن فيه هو غياب نموذج «الشيخ عجاج»، مدرس اللغة العربية الذى يحبها أولا، ويتقنها بوعى وإدراك ثانيا، ويقوم بتدريسها بشغف واحترام ثالثا، وفوق كل هذا هو نموذج للمثقف الذى يرى بعين بصيرة تلميذا نجيبا لامعا فيهتم به ويرشده ويساعده على تنمية ذائقته وتطوير ملكاته اللغوية ودعمه وتشجيعه، كل هذا كان من فعل شخص اسمه «الشيخ عجاج» مدرس اللغة العربية فى المرحلة الابتدائية!
وقبل أن أسمع التسجيل المحفوظ «وهل الظرف مثل الظرف وهل الأوضاع المعيشية والاقتصادية لمدرس اللغة العربية الآن تسمح بمثل هذا» أرد وأقول نعم ليست مسئولية المدرس وحده، والدولة تتحمل ذلك (لا تتوافر أى إرادة من أى نوع لإعادة النظر واتخاذ خطوات على الطريق لإصلاح العملية التعليمية وعلى رأسها المدرس، إعداده وتأهيله، تحسين مستواه وظروفه.. إلخ).
لكن كل هذا أيضا لا ينفى، أنه لم يعد لدينا مدرس اللغة العربية المؤهل المثقف الذى يمتلك ذائقة لغوية سليمة تم التعامل معها وتنميتها بأساليب صحيحة ومنذ سن مبكرة، غاب الأستاذ عجاج، فظهر «نجم المادة»، «وصاروخ المقرر»، و«إمبراطور اللغة العربية»، و«برنس النحو».. وغير ذلك من الهزل الماسخ الذى طفح على سطح حياتنا الاجتماعية فى العقود الأخيرة.
عدد ضخم وليس بالقليل ممن يمارسون مهنة التدريس بإطلاق فى حاجة إلى إعداد وتأهيل كامل ومن الألف إلى الياء، ثم وبذات الدرجة لا بد من تعزيز المكانة الاجتماعية والإنسانية والثقافية لمهنة المعلم التى وصلت إلى درجة من الانحدار والابتذال والتدنى لا يوجد لها مثيل فى مجتمعات أخرى. المعلم الحقيقى، عمود الطبقة الوسطى المصرية (رحمها الله ورحم أيامها)، الذى كان وعيه وثقافته وذائقته تساوى عشرات ممن يحملون الآن لقب «دكتور» وهم يجهلون أنهم يكتبون أسماءهم بطريقة خاطئة. المعلم الذى كان فى وقت من الأوقات، فى مصر، هو «الشيخ عجاج» الذى وجه نجيب محفوظ كى يكون «نجيبا».