اتضح من أزمة النقد الأجنبى التى ضربت الاقتصاد المصرى فى الشهور الأخيرة، أن هناك اضطرابا وعدم اتساق فى السياسات الاقتصادية المعمول بها. فمن الواضح أن كل وزير فى المجموعة الاقتصادية له عقيدته ورؤيته الاقتصادية الخاصة، نظرا لعدم وجود رؤية موحدة متماسكة. إذ أن انعدام تلك الرؤية أدى إلى عدم الاتساق والتنافر بين السياسات المتبعة فى عدد من وزارات المجموعة الاقتصادية. وأبرز مظاهر عدم الاتساق ذلك التناقض القائم دوما بين وزير المالية ومحافظ البنك المركزى منذ أيام يوسف بطرس غالى، بينما أحد أهم عناصر الاتساق فى السياسة الاقتصادية هو التنسيق الكامل بين السياستين النقدية والمالية.
وينطبق نفس الكلام على التناقض بين تصريحات وسياسات وزراء الاستثمار والتعاون الدولى، وعدم التناغم بين السياسات النقدية والمالية من ناحية، وسياسات وزارة التجارة والصناعة من ناحية أخرى، أى تلك التى تتعلق بالاقتصاد الحقيقى: الإنتاج والتشغيل والاستيراد والتصدير. لأنه فى نهاية المطاف يجب أن تتناغم السياسات النقدية مع السياسات الخاصة بالتجارة الخارجية والصناعة المحلية. وهنا يكمن جوهر الأزمة التى يمر بها الاقتصاد المصرى فى الشهور الأخيرة.
***
وكانت الشرارة الأولى فى تدهور سعر صرف الجنيه المصرى مقابل الدولار، التصريح الهام الذى أدلى به وزير الاستثمار فى مؤتمر اليورومنى فى شهر سبتمبر 2015، حيث صرح أنه ليس هناك خيار سوى تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار. ومنذ تلك اللحظة نشط المضاربون والسماسرة الذين يروجون للشائعات والتوقعات غير الرشيدة، حيث بدأ الميكانيزم التقليدى: حيث يقوم الحائزون على الدولار بحبس وتخزين الدولار، انتظارا لقفزات فى سعره، وفى نفس الوقت يزداد الطلب المحموم على الدولار بواسطة المستثمرين والمستوردين خوفا من الارتفاع المحتمل فى سعر صرف الدولار. وبالتالى تتفاقم الأزمة فى سوق الصرف نتيجة ندرة المعروض من الدولارات وزيادة الطلب «المصطنع» على الدولار. ثم يستمر المسلسل التقليدى من خلال نشوء سوقين للعملة: سوق رسمى للعملة فى البنوك وسوق سوداء «موازية» للعملة وتزداد الفجوة تدريجيا بين سعر الصرف فى كلا السوقين كما شهدنا خلال الأسابيع الأخيرة.
***
وفى نفس الوقت نشأت آليات جانبية خطيرة إذ يقوم المصدرون بالاكتفاء بتحويل نسب محدودة «لا تتجاوز عادة 10%» من عوائد التصدير، لتغطية احتياجاتهم المحلية، فى ظل عدم وجود ما يلزمهم بتحويل كامل حصيلة الصادرات. وينطبق نفس الشىء على وكالات السفر والسياحة، وبالتالى تأثرت بشدة موارد الدولة من النقد الأجنبى.
وفى نفس الوقت تتراجع تحويلات المصريين فى الخارج التى تصب فى الجهاز المصرفى بالأسعار الرسمية للعملة، إذ ينشط الجلابون فى البلدان التى يتواجد بها المصريون فى الخارج ليتم حرف مسارات هذه التحويلات من القطاع المصرفى إلى سوق الصرف الموازية، حيث يتم اختطاف هذه التحويلات فى الخارج وتوريد مقابلها لذويهم بالجنيه المصرى بسعر السوق السوداء، مما يؤدى إلى نشوء مجمع كبير للنقد الأجنبى خارج الجهاز المصرفى يلجأ إليه المستوردون والمستثمرون لتدبير احتياجاتهم. وفى هذا الإطار تنشط مراكز فى الأردن ودبى كمحطات هامة فى هذه التعاملات.
***
فى ضوء ما سبق يتضح أن البنك المركزى فقد السيطرة على جانب كبير من موارد النقد الأجنبى، التى كان من المفترض أن تصب فى الجهاز المصرفى مما أدى إلى وجود ندرة من النقد الأجنبى فى مجمع البنك المركزى لا تكفى للوفاء بالأولويات التى وضعها البنك لتخصيص النقد الأجنبى، حسب درجة الحاجة إليها من منظور المصلحة القومية: واردات السلع الغذائية، وواردات السلع الاستراتيجية من غاز وبترول ومستلزمات إنتاج، وغيرها من أقساط الديون المستحقة على مصر. وكما صرح هشام رامز، محافظ البنك المركزى المستقيل بأن البنك يقوم فقط بإدارة موارد البلد من النقد الأجنبى وفقا لأولويات متبعة فى جميع البلدان النامية التى تعانى من نقص فى النقد الأجنبى.
***
ولكن الأزمة لا تكمن فقط فى إدارة سعر الصرف فى ظل ظروف الندرة، بل إن جانبا كبيرا من الأزمة يعود إلى خلل كبير فى بنية الإقتصاد الحقيقى «أو العينى» إذ أدت السياسات الاقتصادية المتبعة منذ منتصف سبعينيات القرن الماضى إلى تقليص الطاقة الإنتاجية للاقتصاد المصرى فى مجالات الصناعة والزراعة. ووفقا لما أدلى به رئيس النقابة العامة للعاملين بالغزل والنسيج، أن قرابة 50% من مصانع الغزل والنسيج توقفت عن العمل نهائيا. وتمتد نفس الأزمة إلى عدد كبير من المصانع فى القطاعين العام والخاص. ناهيك عن تدهور إنتاجية الزراعة المصرية فى عدد من المحاصيل الرئيسية. وأدى هذا إلى نشاط مافيات الاستيراد التى أغرقت البلاد فى طوفان من السلع المستوردة وأدت إلى انخفاض نسبة تغطية الصادرات السلعية إلى الواردات السلعية إلى نحو 36% بعد ان كانت تدور فى حدود 45%. وهنا يكمن خلل رئيسى فى بنية الاقتصاد الحقيقى يعمق من أزمة السياسة النقدية ويحتاج إلى إجراء مراجعة شاملة للسياسات الصناعية والزراعية والاستيرادية. ويأتى على رأسها ترشيد الاستيراد وتشجيع بدائل الواردات من الإنتاج المحلى.
***
فى ظل هذه الظروف ولتحقيق أكبر قدر من الاتساق فى السياسات الاقتصادية، وفقا لرؤية موحدة، لابد فى تقديرى من تعيين نائب لرئيس الوزراء للشئون الاقتصادية له الخبرة والكفائة اللازمة للتنسيق بين أعضاء المجموعة الاقتصادية، التى تشمل وزارات المالية والاستثمار والتعاون الدولى والتجارة والصناعة والبنك المركزى حتى لا تتداخل الاختصاصات وتتنافر السياسات على النحو الذى شهدناه خلال الشهور الأخيرة. وهكذا كانت أزمة الدولار كاشفا لعمق الأزمة المؤسسية فى مجال اتخاذ القرار الاقتصادى.