الشوارع خاوية إلا من بعض المارة والعربات المسرعة وربما القطط والكلاب التى استباحت الأرصفة وأسوار المبانى والعربات المصطفة فى لحظات قد تبدو غريبة بالنسبة لها، عندما اختفى الناس من الشوارع حتى تلك التى عادة ما تكون مكتظة طوال النهار والليل فى مدن الملايين. اكتظت المقاهى والمطاعم وحتى محلات البقالة الصغيرة بالجماهير الجالسة أو الواقفة متسمرة أمام شاشات التلفاز.. إنه المونديال ولا صوت يعلو على صوت «الكورة» والمعلقين بكل اللغات واللهجات وما بينهما صرخات مدوية «هايييى» من قبل مشجعى ومشجعات هذا الفريق أو ذاك.
• • •
المونديال هو الحدث الأكبر والأهم فى كل بقاع الكون على تفاوت شعبية هذه الرياضة بين بلد وآخر رغم أن مراكز الرصد والبحث الرياضية قد سجلت كرة القدم «الرياضة» رقم واحد بالنسبة لعدد متابعيها والذى يصل إلى أربعة مليارات متابع وتأتى بعدها كرة السلة ثم التنس ثم ألعاب القوى الأخرى. وقد تكون هى الرياضة الأكثر قربا من كل الناس على اختلاف مستواهم الاجتماعى والمالى وحتى الثقافى فهى فى الأندية الراقية والأحياء الفقيرة بأزقتها المتربة عندما لا يجد الفقراء ثمن كرة القدم كانوا يصنعون كرة من بقايا الجوارب حتى عرفت بـ«كرة الشراب».
• • •
كأس العالم لهذا العام يأتى بنكهة عربية وهى المرة الأولى وهو كذلك أكثر قربا لنا بكل تفاصيله ولكن ما لم يتوقعه الكثيرون أنه سيتحول إلى شكل من أشكال الاستفتاء بين الشعوب العربية «الكروية» على العلاقات والتطبيع مع إسرائيل. هذه الجماهير التى فى مجملها شابة من الجنسين ورياضية لا تحمل توجهات سياسية معارضة ولا يسارية أو شيوعية أو أى من الصفات التى يوصم بها الفرد عندما يعبر عن رفضه لذاك الكيان، الذى يعد وحسب الأمم المتحدة ومنظماتها وحتى منظمات حقوق الإنسان الأخرى مثل أمنستى Amnesty، آخر احتلال ونظام فصل عنصرى على وجه الأرض.
• • •
كيف يتحول حدث رياضى بجدارة محمل بكثير من المظاهر والبرامج الترفيهية والاستهلاكية كحال كل الرياضات وحتى المناسبات الأخرى ومنها الدينية أيضا، إلى مساحة أو فضاء يعبر فيه المواطن العربى من مختلف الخلفيات والبلدات والمدن عن حجم رفضه الداخلى لمثل هذا الكيان؟ وكيف توحد الجميع دون أن يكون هناك «مؤامرة خارجية» أو تحريك من قبل المعارضات الداخلية أو حتى قائد للأوركسترا المعارضة والتى لم تكتف برفض التعامل والحديث مع محطات التليفزيون الإسرائيلية بل تعدت ذلك لترفع علم فلسطين ليصبح هو وفلسطين الأبطال الحقيقيين للمونديال.. سجل الإسرائيليون أنفسهم كم الرفض الذى واجهوه من قبل شباب وشابات من جنسيات مختلفة وليسوا فلسطينيين أو من الدول العربية القليلة التى لم تلتحق بركب مواكب التطبيع والتطبيل لها!
• • •
تحدثوا وكتبوا فى صحفهم بأنهم مرفوضون من قبل الجماهير العربية وأنهم وبعد توقيع أربع اتفاقيات تطبيع مع أربع دول عربية لم يتوقعوا ردة الفعل هذه حتى من قبل جماهير نفس هذه البلدان العربية الأربع. يقول أحد الصحفيين الإسرائيليين بحسرة وحشرجة يبدو أننا طبعنا مع الحكومات ولكننا لم نستطع أن نصل إلى الشعوب، رغم ما قيل ولا يزال من قبل بعض المعنيين والمسئولين والمطبلين فى الدول الأربع، ورغم الوفود التى تبادلت الزيارات والوزراء وبعض السفهاء المتعطشين لأن يكونوا فى الصورة أو أن يقتنصوا منصب وزير أو وزيرة أو ربما حتى نائب أو نائبة! كل هذه الجوجلة والضوضاء التى عاشها بعض إعلامنا لمدة أشهر انطفت أو ربما أخفيت فى دهاليزها المظلمة عندما اشتعلت شبكات التواصل بمشاهد لشاب يرفض الحديث للمذيع الإسرائيلى أو آخر يطلب منه النزول من التاكسى أو بعض المشجعين الحاملين لأعلام فلسطين وهم يلوحون من خلف المراسل الرياضى الذى يتخلى عن تغطية المباريات وينغمس فى محاولة لإفهام جمهوره بأنه يواجه صعوبات عدة فى التغطية بل فى التجول ودخول المطاعم والمقاهى والاحتكاك بالجماهير.
• • •
هذه المشاهد إذا لم تفتح حوارا مطولا فى إعلامنا فهو أمر معروف الأسباب لأنه لا إعلام حقيقى وحر فى بلداننا إلا ما ندر ولكنها بالطبع قد فتحت الأعين والقلوب مجددا وأعادت الصوت لأولئك الذين اتهموا لسنين وسنين بأنهم «قومجية» أو «ناصريون» أو «يساريون» أو «شيوعيون» وهى فى مجملها ليست بالصفات المسيئة إذا ما أخذت فى إطار ونطاق حق الإنسان فى أن يتبنى رأيا أو فكرا سياسيا كما هو الحال فى المجتمعات المنفتحة والتى تمارس بعضا من أشكال الاعتراف بالآخر وتقبله إلا من رفع السلاح واستباح الدماء.
• • •
مونديال قطر انتصار كبير ليس للعرب فى إقامة مثل هذا الحدث الضخم بل انتصار لصوت العرب وكل أنصار الحرية والكرامة فى العالم.