مصطلحات معتادة نسمعها مثل «العدالة الناجزة» ــ أى عدم إبطاء التقاضى فى إعادة الحقوق المضمومة لأصحابها، «العدالة معصوبة العينين» ــ أى التى لا تفرق بين الناس وتحكم بينهم بالعدل، وبرغم ذلك، فإن قضايا الناس تظل تائهة لسنوات فى المحاكم، وتسير المحاكمات ببطء، وتضيع الحقوق نتيجة طول إجراءات التقاضى، وارتفاع تكاليفها بما لا يستطيع تحمله مواطنون كثر.
هذه قصة من بريطانيا لعدالة تأخرت ثلاثة وثلاثين عاما، ليس لأنها تباطأت، ولكن لأنها كانت مشغولة بالبحث عن الجانى، وتحمل رسالة مفادها لو تأخر العدل سوف يأتى، وهو ما يرفع معدلات ثقة الأفراد فى النظام القانونى خاصة، وفى انتظام الحياة فى المجتمع عامة.
فتاة من أسرة يونانية تعيش فى لندن، أسرة متماسكة مترابطة، تتمسك بالتقاليد اليونانية، والتى بها مسحة شرقية معتبرة. فى أغسطس عام 1982م، عثر الوالدان على ابنتهما البالغة من العمر سبعة عشر عاما شبه عارية فى فراشهما، بعد أن اغتصبها وقتلها شخص لم يتمكن القانون من إثبات جرمه، وإنزال القصاص به. مات والدها بعد ست سنوات من مقتل ابنته الشابة، لم يرَ بعينيه القصاص، الذى بدأت ملامحه تظهر، عندما حدث اشتباه بشخص، أمكن أحد العلماء عام 1999م من التعرف عليه من خلال تحليل DNA الشهير لبقايا الإفرازات التى وجدت على الفراش، وهكذا سمح التقدم العلمى مع مرور السنين فى كشف الجانى، الذى ضاقت الحلقات حوله وهو فى السادسة والخمسين من العمر، وساعد فى الكشف عنه أنه يشبه «جون ترافولتا»، ويواجه الآن فى المحكمة تهمة اغتصاب وقتل الفتاة. بالطبع أنكر التهم، ثم عندما واجه الأدلة ذكر أنه كان على علاقة بها، وهو ما نفاه الطب الشرعى الذى أثبت أنها كانت عذراء، وأكدت شهادات الجيران والأصدقاء والأقارب أنها لم تكن على علاقة بأحد.
سنوات طويلة مرت كانت كفيلة بإغلاق ملف هذه الفتاة، أو تسجيل العبارة الشهيرة «قيد الحادث ضد مجهول»، يأبى المجتمع الذى يحترم الإنسان أن يترك جريمة ترتكب فى حق أحد مواطنيه تمضى بلا عقاب، أو يحيل أمرها إلى مجهول لا يجتهد فى معرفته، ولا يتتبع خطواته أو آثاره مهما تقدم به العمر، وتراكمت السنوات. بالتأكيد المسئولون فى مؤسسات العدالة المعنية بهذه القضية توارثوها، حيث يصعب أن يبقى محقق أو شرطى أو عضو نيابة فى موقعه دون أن يتزحزح منه لعقود، فقد تسلمها جيل بعد جيل، بنفس الشغف، والدأب، والرغبة فى البحث.
المتهم الذى يحاكم الآن قد يٌنزل به العقاب بعد مرور أكثر من ثلاثة عقود على جريمته، بعد أن يكون نسيها، أو سار فى درب آخر من دروب الحياة، لكن العدالة تظل متيقظة، تغالب النعاس، ولا تعطى لجفونها راحة.
قصة معبرة لما نطلق عليه، ونتمناه، أى دولة القانون، التى حين تتحقق لن يمضى شخص بلا عقاب، ولن تكون هناك جلسات عرفية بديلا عن القانون، ولن يعتدى جمهور على مواطنين، ويتوه الجناة وسط الغوغاء، ولن يتغاضى المجتمع عن حقه طالما نسى أو ابتلع الناس جرحهم.