كانت مدينة رشيد تتثاءب لتنفض آثار النوم وهى تستقبل صباح يوم جديد، خيوط النهار الوضاءة تكسب مؤقتا معركتها اليومية مع حلكة الليل المتراصة طبقات فوق طبقات، عشرات من أشجار النخيل المُعمرة تنتظر بزوغ الشمس لتعكس صورتها على صفحة النهر الخالد، مراكب الصيد المتناثرة على مدد الشوف تتهادى ترقبا لإبحار جديد سعيا وراء الرزق، قلعة قايتباى المهيبة تستريح من نوباتشية الليل وتسلم حراسة المدينة إلى ناسها الأصلاء الذين قاوم أسلافهم موجات الغزاة موجة تلو موجة.
عقارب الساعة تزحف نحو الرابعة وفرج خميس البراوى ابن الخمسين لم ينتفض كعادته لأداء صلاة الفجر مع أنه كان يقظانا. رأسه مشتعل بعشرات الهواجس والكوابيس فكيف لمثله أن ينام؟ تطارده أبيات على الجارم ابن رشيد وأحد أكبر شعراء مصر فى النصف الأول من القرن العشرين، يقول فيها:
تثب الشمس فى السماء وشمسى عقلت دونهم بألف عقال
فإن نمت فالظلام أمامى أو تيقظت فالظلام حيالى
الفارق الوحيد أن أبيات على الجارم كانت عن شخص ضرير أما فرج خميس فكان واقعه هو شديد البؤس والإظلام. من ثمانية عشرة شهرا بالتمام والكمال وفرج لا يعمل، ففى يوم أغبر صدم التاكسى الذى يقوده إحدى السيارات فألغى المرور رخصته، وما كانت له مهنة غير القيادة. ومن بعد بات عليه أن يدخل اختبارا تلو اختبار لاستخراج رخصة جديدة تعيد الاعتراف بلياقته للقيادة، لكنه فشل، نعم فشل فيها جميعا وهو السائق المحنك على مدى ثلاثين عاما. شىء غير نقص الخبرة، وسوء الحظ، وضعف الثقة بالنفس، والاضطراب، شىء آخر غير هؤلاء جميعا كان يعانده فى كل مرة توكل فيها على الله وأعاد اختبار القيادة.. تربص الممتحنين به ربما، لا مبالاتهم بشأنه ربما، كونه فقيرا لا حول له ولا قوة ربما، أو ربما هذا كله فالتفسير فى حالته غير مهم. أما المهم فعلا فهو أنه كأب صار عاجزا عن القيام بمسئوليته حيال زوجته وأولاده الثلاثة. أخرج الأولاد تباعا من مدارسهم، ومرضت زوجته وابنه الأكبر فأضيفت إليهما محنة المرض بعد الجهل.
يا رب أين السبيل؟
يا رب أين السبيل؟
سؤال كرره فرج على نفسه كلما وخزه كبرياؤه لمرأى الأولاد يتعاونون على تدبير معاشهم ومعاشه، ويؤذيه إحساسه بالذنب لمرض الابن الأكبر الذى خرج لسوق العمل محتميا بصحته فلم يحتمل. وفى تلك الليلة من ليالى شهر أبريل، خلد الجميع إلى النوم إلا فرج، راح يقلب الأمر على كل الوجوه وانتوى شيئا. مادام لا أمل له فى أن يعول أسرته فليكفها إذن عبء إعالته... ماذا؟ ينتحر؟ رُج جسمه رجا كمن أصابته حمى عندما انتهى وهو الرجل المؤمن إلى هذا الحل. هتف صوت من داخله إنه لا يقنط من رحمة الله إلا القوم الظالمون، ورماه آخر بالجبن لأنه اختار الهروب من ساحة المعركة، وصور له ثالث لحظات الاحتضار كأصعب ما تكون، لكنه كان قادرا على إسكات الأصوات جميعا فقد بدا وكأنه مشدود إلى حتفه لا يلتفت يمينا أو يسارا. أزاح الغطاء المتهرئ عنه وزوجته، وقام متثاقلا يتوضأ.
فى الطريق من البيت إلى المسجد كان كل شىء على حاله، النخيل والقلعة والفقر والناس الطيبون، هو فقط الذى كان يختلف. ومع ذلك فما من أحد لاحظ اختلافه، فها هى جماعات الصيادون تبادره بالتحية وهى تتجه شطر النيل، وها هو صاحبه مجدى عامل المسجد يستقبله نصف نائم كعادته، وها هم رفقاؤه فى صلاة الفجر ينتظمون فى صفوف ثلاثة تتخللها فرجة تنتظر شبابا يملؤها. أدى فرج صلاته وذهب ولم يلحظ أحد يومها أنه أطال السجود، كثيرون غيره يطيلون كل يوم السجود.
كان على فرج أن ينتظر انصراف الجميع من المسجد حتى يعود إليه وينفذ خطته. أخرج حبلا كان يخفيه بين طيات ثيابه وربطه فى السلم الخشبى الذى يفضى إلى المنبر، أتى بأحد المقاعد التى يصلى عليها المرضى والمسنون وصعد فوقه ونطق الشهادتين، لف الحبل حول رقبته ثم ركل المقعد بقدمه ولفظ أنفاسه.
يا الله من أين جاء فرج بفكرة أن ينتحر فى ساحة مسجد؟ كيف تجتمع ذروة المعصية مع قمة الطاعة فى بيت من بيوت الله وأى خلط بين أشياء لا تختلط؟ هل كان فى اختيار المسجد معنى الإلحاح على طلب المغفرة قبل ارتكاب إثم كبير؟ أم كان اختياره صرخة احتجاج على ظلم الممتحنين الذين حاربوه فى رزقه بقسوة نادرة؟ لم لا يكون اختيار المسجد لمجرد أنه المكان الذى يجد فيه فرج راحته ويألفه ويتردد عليه خمس مرات فى اليوم الواحد؟ أو يكون الاختيار وليد لحظة جنون بلا تدبير مسبق أو تخطيط؟ هل كان فرج طالب شهرة؟ أم كان يريد أن يتظاهر بالانتحار ليلفت النظر إلى قضيته لكنه فشل؟ هل وهل............؟
أسئلة لا حصر لها خلفها فرج من ورائه ولا مجيب، والمدهش أن انتحاره على غرابته لم يثر انتباه أحد وكأن نصب المشانق فوق منابر المساجد هو أمر عادى بل عادى جدا. الأصل فى قتل الذات أنه تعبير عن ذروة الاختلال النفسى، لكن عندما شرع أربعة وخمسون ألفا من المصريين فى الانتحار ومات منهم أربعة آلاف فى عام واحد (من 6 ــ 2008 إلى 6 ــ 2009 بحسب دراسة لمركز المعلومات التابع لمجلس الوزراء) لم يفاجئنا الرقم. وعندما أقدم أطفال فى عمر الزهور على الانتحار وآخرهم طفل ألقى بنفسه من النافذة خوفا من عقاب مدرسه لم يفاجئنا العمر. وها نحن نجد فرج خميس البراوى ينتحر فى داخل مسجد فلا يفاجئنا المكان ولا نفتش عن السبب. فأى شىء يمكن أن يفاجئنا؟
كان انتحار فرج ابن مدينة رشيد خبرا عاديا نشرته جريدة المصرى اليوم فى 21 من هذا الشهر على صفحتها التاسعة عشر ولم يعلق عليه مخلوق. مسكين فرج لم ينقذه أحد، ولا ظفر انتحاره الغريب من فوق منبر مسجد بالضجة التى كان يرجوها، فالضجة لا تحيط إلا بتحركات المسئولين وصحتهم، أما موت بشر من أمثال فرج البراوى فلا.