فرضت المواجهة الاقتصادية بين روسيا والغرب نفسها على سوق العملات الدولية، لاسيما بعد سلسلة العقوبات الغربية على روسيا منذ اندلاع أزمة أوكرانيا. وكان التصور الغالب أن العقوبات الغربية ستعصف بسعر صرف الروبل مما يصنع تضخما هائلا داخل روسيا يحرك طبقات من الشعب ضد الدولة. ولكن صمدت روسيا فى مواجهة هذه العقوبات، وكأنها سابقة بخطوة إن لم يكن بخطوات. فالروبل استعاد قيمته فى وقت قياسى ويتداول بسعر صرف ما قبل أزمة أوكرانيا. وفتح ذلك المجال أمام دول كثيرة لتحذو حذو روسيا. لكن روسيا استطاعت فعل ذلك لأن لديها مخزونا هائلا من الطاقة، البترول والغاز الطبيعى، وهى منتجات أساسية لا غنى عنها فى الوقت الحالى. وبالتالى، طالما استمرت الدول المستوردة فى شراء المنتجات الروسية، لاسيما البترول والغاز الطبيعى، سيستمر سعر صرف الروبل الروسى فى مستواه الحالى وقد يتحسن.. لكن هل تنطبق نفس المعادلة على دول أخرى مثل السعودية؟ ماذا سيحدث لو باعت البترول بالريال السعودى؟
بعد اندلاع أزمة أوكرانيا يوم 24 فبراير الماضى، دار الحديث عن زيارة مرتقبة من الرئيس الصينى إلى السعودية للتباحث حول أمور اقتصادية هامة. وعادة تحمل الصين فى جعبتها مشروع الحزام والطريق، وتفاوض الدول للانضمام لهذا المشروع الدولى العابر للقارات. لكن الزيارة المرتقبة التى تم تأجيلها لما بعد رمضان، تحمل أجندة إضافية بخصوص بيع البترول للصين مقابل اليوان الصينى. ولو حدث ذلك لتغيرت أوضاع اليوان والدولار والريال، بالإضافة لعملات أخرى كثيرة. فبينما ترتفع قوة اليوان فى حال تنفيذ عقود بيع البترول باليوان، فإن ذلك سيضعف الدولار كعملة العالم التجارية الأولى. ولو نجحت الصين فى عقد اتفاق مثل هذا مع السعودية، فإن هذا يعتبر تحولا استراتيجيا فى شئون العالم التجارية، وسيتبعه تداعيات اقتصادية على أمريكا والغرب، وكل الدول التى لديها احتياطيات بالدولار بما فيها الصين نفسها. وسيكون لكل ذلك تبعات سياسية هائلة. فهذا النوع من القرارات بمثابة ثورة تجارية عالمية، لا تغير الأوضاع فقط ولكن تعيد هيكلة الأمور. ولذلك، من المستبعد أن يتحقق هذا التحول بدون معركة سياسية فى القريب العاجل. وستكون القيادة السعودية تحت ضغوط دولية هائلة.
• • •
المملكة لديها الكثير من الأسباب لخوض هذه المعركة، فهى من ناحية، تألمت من موقف إدارة بايدن التى منعتها من صفقات سلاح تساعدها فى حربها ضد الحوثيين. كما تتوجس المملكة من الاتفاق النووى الإيرانى الجديد الذى يوشك أن يتم بدون أن يكون للمملكة أو دول الخليج كلمة فى هذا الاتفاق. أضف إلى ذلك حالة التهميش لولى العهد السعودى، وعزوف الرئيس بايدن عن التعامل المباشر معه. ولما اندلعت الأزمة الأوكرانية تغيرت الرياح لصالح منتجى البترول. فلقد ارتفع سعره ليعوض الكثير من خسائر الفترة السابقة التى واكبت انتشار الكورونا. وشعرت الاقتصاديات المستوردة للطاقة فى الغرب بأن الضغوط تتزايد عليها. فلجأت إلى دول الخليج لزيادة الإنتاج، ولكن لم تستجب دول الخليج لهذا الطلب ولم يتغير حجم إنتاج الأوبك. وعلى الصعيد السياسى رفض بعض قادة دول الخليج استقبال مكالمات من الرئيس بايدن. بينما فى نفس السياق، جاء الكلام عن زيارة مرتقبة للرئيس الصينى للرياض بغرض عقد اتفاقيات تجارية لشراء البترول باليوان الصينى. ولذلك تسود حالة من الترقب لما ستسفر عنه هذه الزيارة. فنجاحها يقلب الموازين.
لكن لماذا لا تبيع السعودية البترول بالريال؟ وهل تستطيع فعل ذلك مثلما فعلت روسيا وباعت البترول بعملتها المحلية؟ إن السعودية لديها المقومات التى تؤهلها لمثل هذه الخطوة. فصادرات المملكة من قطاع الطاقة تؤهلها لمساندة الريال وتحويله لعملة عالمية. فبالرغم من ارتفاع فكرة الاقتصاد الأخضر المعتمد على أنواع الطاقة البديلة صديقة البيئة، لكن الأزمة الحالية فى أوكرانيا أثبتت أن الأمر بحاجة لمزيد من الوقت. ومن جانب آخر، يوجد لدى السعودية حجم هائل من مناجم الذهب تفوق فى قيمتها التريليون دولار، ويبلغ حجم صادرات المملكة من الذهب 400 ألف أونصة سنويا تناهز 750 مليون دولار. بينما تبلغ صادراتها المعدنية غير البترولية نحو 22 مليار دولار سنويا. وهذا بدون احتساب السياحة الدينية الوافدة للمملكة فى مواسم الحج والعمرة. وهى خدمات دائمة لم تتوقف إلا مرحليا بسبب جائحة كورونا، لكن قطاع السياحة الدينية يستعيد عافيته الآن. ومن ثم، المقومات الاقتصادية التى تصنع قيمة للريال السعودى بدون ربطه بالدولار، هى مقومات حقيقية، فلماذا لا تفكر المملكة لتسعير وبيع البترول بالريال؟
• • •
على أى حال، لو حدث وقامت المملكة ببيع البترول بأى عملة غير الدولار فمن المرجح أن تهوى قيمة الدولار بصورة كبيرة. بمعنى آخر، لو اعتمدت السعودية نفس سياسة روسيا وباعت البترول بأى عملة أخرى فهذا يعتبر ضربة قوية تزيح الدولار جزئيا عن عرش العملات التجارية فى العالم. وأغلب الظن تحاول واشنطن الآن تدارك هذا الموقف قبل أن يتحول التفكير إلى واقع، وتتحول الخطط إلى حقيقة. ولكن لا ندرى ما هى الخطوات التى ستقوم بها لمنع بيع البترول باليوان الصينى. فمن ناحية لا تملك واشنطن الرصيد الكافى مع ولى العهد السعودى لكى تمنع مثل هذه الخطوة. ومن ناحية ثانية قد لا يكون ولى العهد نفسه مهتما بما تعرضه واشنطن. وبين هذا وذاك تدور الحسابات الأمريكية، والتى تنذر بأن واشنطن قد تقدم على اتخاذ قرار أو اعتماد سياسة تضر بأمن المملكة. وذلك لأن إدارة بايدن أعلنت أكثر من مرة أنها ستعاقب أى دولة تحاول مساعدة روسيا. بينما تؤكد الاتصالات بين الأمير محمد بن سلمان والرئيس فلاديمير بوتين باتفاقهما على توسيع العمل المشترك، على الأقل فى قطاع الطاقة لضمان استقرار أسواق النفط العالمية.
الخلاصة، يوحى المشهد بأن ثمة اتصالات تجرى فى الغرف المغلقة، وفى دوائر صنع القرار فى أكثر من عاصمة. وقد لا نتجاوز إذا قلنا أن ثمة محاولة لترويض الدولار ومن يستخدمه كوسيلة لمعاقبة الدول. ولو نجحت هذه المحاولة، فإن التداعيات ستكون هائلة. فلا عالم متعدد الأقطاب فى ظل هيمنة الدولار. لكن فى المقابل، ماذا لو كان رد فعل واشنطن هو ربط الدولار بالطاقة الجديدة والمتجددة؟ ومن ثم يتحول الموضوع إلى حصار مضاد لموارد الطاقة التقليدية، من البترول والغاز الطبيعى، ومحاصرة اقتصاد الدول المعتمدة على بيع تلك الموارد، ومحاصرة عملاتها. وعلى الدول فى ظل هذه المواجهات الاستعداد جيدا، فقد تتطور الأزمة سريعا، وقد تصل أو تمس دولا أخرى كثيرة ليست طرفا فى الأزمة أو المواجهات.