ماذا يعنى أن نتخاصم؟ هل هى المقاطعة التامة أم أنها شيء مما بين.. يردد هو أن تكون مثاليا وتعيد تكرار تلك العبارة «أحبوا بعضكم» فى زمن كهذا تبدو غير واقعية، حيث يتقاتل الزملاء على الوظائف والترقيات، وحيث يتقاتل الإخوة على الإرث ويزحف الكثيرون فوق كرامتهم للتقرب من المسئولين وصانعى القرار إن كان هناك قرار حقا فالجميع يعيش «بالبركة».
***
هل المطلوب أن نحب بعضنا أم أن نتعايش ونعيش ولا نترك للانقطاع سبيلا؟ كنا نقول إن الحوار هو الأهم ولكن هل نفهم معنى الحوار؟ أسئلة كثيرة والعالم يتمزق إلى دويلات حتى أصبح للشارع رئيس وهو يتخاصم مع رئيس الشارع الموازى ويتقاتل الجميع على بئر نفط أو نهر أو بحر، فالعطش قادم فى «دويلات» لم تعرف أن تخلق اقتصاد أصلا.. حاولت أن تتبنى اقتصاد السوق فسقطت فى اقتصاد الدولة الريعية، وعندما اشترت أصوات الناس بالمكرمات ما لبثت ووقعت فى الفخ.. العالم بأجمعه يراجع مفهومه لاقتصاد السوق الذى نادى به بل تغزل به الجميع، والآن هناك فى كل العالم مراجعات له ودراسات وكتب حول ما إذا كان هو الأنسب.
***
عندما تزداد مساحة التنافس على الثروات أو حتى على مراكز القوى أو السيطرة على بلد أو منطقة ماذا يفعل المتنافسون؟ فى دول لا مساحة فيها للآراء بل هى ذات لون وصبغة واحدة بأجهزة إعلام بائسة، هنا لا يجد القائمون على هذه الدول سوى القطيعة والحصار، وتشتغل الماكينات الإعلامية لنشر خطاب الكراهية.. ولأن الشعوب تعودت على «بلادة» الجرى وراء الحاكم أو المسئول فلا اعتراض ولا بعد نظر ولا بصيرة!
***
يتقوقع الجميع ويصعب على الفرد حتى ذاك الذى بدأ يرى فى مثل هذه القطيعة وخطابات الكراهية خطر قادم على مستقبل بلده بل وطنه وربما على كل المحيط.. حتى هو أو هى لن يجدوا وسيلة تطرح الأسئلة ولا تعاند وتعارض الرأى السائد.. ومن يفعل فهو كما يرددون «يحارب طواحين الهواء»!
***
وحتى عندما يقترب الخطر ويكون عند أبواب مدننا وشواطئنا، تبقى المكابرة ورفع السيف كما حروب الجاهلية الأولى أو تلك الشعارات التى سادت فى مرحلة «لا تصالح»! وفيما كانت تقال للعدو الأول الذى تحول إلى الصديق الأول، أصبحت موجهة إلى الأخ والصديق والجار الذى قد لا نحب ولا نتفق معه ولكن الجغرافيا أقوى من كل العوامل الأخرى فعندما غزت العراق الكويت كرر الكويتيون هل نستطيع أن نبعد الكويت وجدودها عن ذلك الجار؟
***
عند حديثنا عن تلك الظاهرة المنتشرة، تقول هى بحرقة قلب «لا أستطيع أن أصافح وأتعامل مع أيد ملطخة بالدماء»، وآخر يردد كيف أحاور من أفسد فى الأرض ودمر مستقبل أولادى بل وأحفادى وراكم علينا الديون وذاك الذى خلق الفرقة بين الشعب بل بين الأخ وأخيه والزوج وزوجته.. ويقول لنا من مروا قبلنا بمئات السنين إن الحوار لا يكون إلا بين المختلفين والمفاوضات هى فى كثير من الأحيان بين ما يسمى «بالأعداء» وإلا لماذا يتصالح من هم متفقون؟ وهل رأيتم دولتين متفقتين عملتا صلحا؟
***
وآخرون يذكرون بحروب كانت، ورءوس قطعت، وشوارع سقيت بالدماء.. بدماء الكثير من الأبرياء، فوقود الحروب كلها هم الشعوب والفقراء، وليس من أشعلوا الحروب.. حتى الجيوش أصبحت وسيلة لامتصاص أبناء المعوزين والذين تقطعت بهم سبل العلم والعمل..
***
الحوار هو وسيلة ليست «كليشيه» إعلاميا وككل العبارات التى تحولت هى الأخرى لمواد استهلاكية حتى فقدت قيمتها ومعناها، فعندما يردد المتسلط عبارات مثل الشفافية والديمقراطية والمشاركة وفئات الشعب.. إلخ، تتحول هى الأخرى لمادة ممجوجة تذكرنا بذات حوار دار بين أبناء إحدى «ثورات الربيع العربى» فى تلك البلدة التى حوصرت حتى تحول أهلها إلى أشباح فى ظلمة ليلة ممطرة، عندما تساءل شبابها المتواضعون فى العلم والمعرفة «ألا يحق أن يكون لنا برلمان منتخب ونظام ديمقراطى كما الدول المجاورة». ضحك السامعون على القادمين من تلك الدول حتى سقطوا على ظهورهم والشباب الحائر ينظر باستغراب شديد.. من قال لكم إننا أصلا نفهم معنى الحوار وما هى هذه البرلمانات سوى تغطية لضعف وفساد ومظاهر خداعة.. إن لم نعرف ماذا يعنى الحوار بالممارسة الواقعية والصريحة وليس ببوس اللحى والمجالس الخاوية إلا من كثير من النفاق، إن لم نفهم معناه سيكون مصيرنا كما دولة الأندلس.