فى هذه الظروف الملتبسة والمتأزمة فى تاريخ الوطن ينتشر شعار «يسقط حكم العسكر»، وهو شعار تعوزه الدقة لأن الصحيح هو الحكم العسكرى وليس العسكر. وأود فى هذا المقال ان أوضح ان المقولة الشائعة بأن مصر كانت ترزح تحت نيران حكم عسكرى خلال الستين عاما الأخيرة هى مقولة مشوشة تنطوى على مغالطة تاريخية ونمط من التحليل يؤدى إلى طمس المراحل المختلفة فى تاريخ مصر الحديث.
وقد تم الترويج لهذه المقولة فى دوائر غربية عديدة منذ ما قبل ثورة 25 يناير، حيث كان المطلوب بالنسبة لهؤلاء هو إنهاء ما وصفوه بستين عاما من الحكم العسكرى الاستبدادى وإحلال حكم مدنى محله متناسين أن الاستبداد يمكن أن يكون مدنيا (موسولينى، سالازار وغيرهما). وهكذا فقد كان الشعار جاهزا قبل ان يرتكب المجلس العسكرى العديد من الأخطاء خلال الفترة الانتقالية الأولى. وقد ساير هذا المنطق العديد من العناصر الليبرالية والقوى الإسلامية، وقد كان موقف كليهما فى تقديرى يشوبه نوع من الثأرية من نظام يوليو تحت قيادة جمال عبدالناصر.
•••
ولكى يستقيم التحليل لابد ان نفرق بين ثلاثة عهود امتدت من عام ١٩٥٤ حتى عام ٢٠١٠، تلك الفترة التى وصفوها إجمالا وتعميما بحكم العسكر:
١- فترة الرئيس جمال عبدالناصر (١٩٥٤-١٩٧٠)
٢- فترة الرئيس السادات (١٩٧١-١٩٨١)
٣- فترة الرئيس حسنى مبارك ( ١٩٨٢-٢٠١١)
فكل فترة من هذه الفترات تميزت بخصائص سياسية واجتماعية واقتصادية مختلفة، بما فى ذلك وزن ودور النخبة العسكرية فى تركيبة الحكم.
ففى خلال فترة حكم الرئيس عبدالناصر كان هناك بلا شك دور كبير للكوادر والعناصر العسكرية فى نظام الحكم والإدارة. ورغم هذه السمة العسكرية الغالبة فلا يمكن تناسى بلورة مشروع للبناء والتجديد الوطنى خاصة خلال الفترة من ١٩٥٥ إلى ١٩٦٦ ارتكز على الإصلاح الزراعى فى الريف، والتصنيع وبناء السد العالى لضبط مياه النهر، وتحديث البنية الفوقية للمجتمع المصرى.
وقد استعان النظام فى مشروعه بمجموعة فاعلة من أبرز العناصر التكنوقراطية الوطنية ذات الطبيعة المدنية يأتى على رأسهم الدكتور إبراهيم حلمى عبدالرحمن الذى رأس هيئة الطاقة الذرية ثم لجنة التخطيط القومى، والدكتور عزيز صدقى الذى قاد مجهودات التصنيع فى مصر والدكتور رشدى سعيد الذى قاد عمليات المساحة الجيولوجية للتنقيب عن ثروات مصر المعدنية، والدكتور أحمد فؤاد الشريف الذى أنشأ المعهد القومى للإدارة العليا، وغيرهم من الكوادر التكنوقراطية المدنية.
لا يعنى هذا بالطبع ان تجربة عبدالناصر فى البناء الوطنى لم تكن تعانى من غياب الديمقراطية والاعتماد المفرط على البيروقراطية المدنية والعسكرية. وقد كنت من بين من ناضلوا ضد هذه النقيصة فى بنية نظام عبدالناصر باعتبارها تهدد مشروع البناء الوطنى ولا تحصنه. وقد تبلور هذا الموقف فى التحضير لمؤتمر المبعوثين الذى انعقد فى الإسكندرية فى صيف ١٩٦٦. فلا يزايد علينا أحد فى هذا المجال من التيارات السياسية ذات الثأر مع نظام عبدالناصر.
•••
أما الفترة التالية، وهى فترة السادات فقد اتسمت بإعلان توقف المشروع الناصرى للبناء بعد تحقيق نصر أكتوبر المجيد فى عام ١٩٧٣، وبدأت مرحلة الانفتاح الاقتصادى التى دشنته ورقة أكتوبر عام ١٩٧٥، التى تولت فيها مقاليد الأمور نخبة انفتاحيه جديدة – لم تكن عسكرية – وإنما تكونت من رجال الأعمال والمقاولين بقيادة عثمان أحمد عثمان وسيد مرعى. ولقد تمت إزاحة كبار القادة العسكريين فى حرب أكتوبر وعلى رأسهم الفريق سعد الدين الشاذلى، والمشير عبدالغنى الجمسى، والفريق محمد على فهمى، والفريق أحمد بدوى وغيرهم، ولم يصطفى منهم الرئيس السادات سوى حسنى مبارك ليجعله نائبا لرئيس الجمهورية فى مايو ١٩٧٥. فهل يشكل هذا التمثيل الهزيل استمرارا لما يسمونه الحكم العسكرى؟!
وإذا كان بعض المحافظين ورؤساء بعض الشركات ما زالوا من العسكريين المتقاعدين، فإن ذلك لا يعنى سيطرة العسكريين على بنية الحكم كما تتمثل فى نخبة الحزب الحاكم ومؤسسات الحكم التنفيذية والتشريعية. وقد برز فى هذه الفترة برلمانيون متميزون مثل المستشار ممتاز نصار والدكتور محمود القاضى. وبهذه المناسبة أتذكر قول البرلمانى الكبير ممتاز نصار عندما سئل عن سبب معارضته لنظام السادات رغم ما ناله من عنت واضطهاد فى عهد عبدالناصر فأجاب: «لقد عارضت نظام عبدالناصر لأن احد رجاله قال ان القانون فى إجازة، فما بالكم بعهد شيع فيه القانون إلى مثواه الأخير!»
وفى تقديرى انه لو كانت تمت انتخابات رئاسية فى نهاية فترة حكم السادات لكان هناك شخصيتان وطنيتان مرموقتان تحظيان بالإجماع الشعبى هما: الفريق سعد الدين الشاذلى، والمستشار ممتاز نصار، وهو الأمر الذى يشير إلى فساد مقولة ثنائية المدنى والعسكرى فلا فضل لمدنى على عسكرى إلا بالوطنية والانصياع للإرادة الشعبية.
•••
وأخيرا، فقد اتسمت فترة حكم مبارك بصعود عناصر الرأسمالية الاحتكارية: احمد عز والمنصور والمغربى وطلعت مصطفى ومحمد أبوالعينين وآخرون. وسيطرت الدولة الأمنية وليست العسكرية على النظام السياسى. واتسمت هذه الفترة بتحنيط المجتمع المصرى، وأتذكر بهذا الصدد الدبلوماسى المصرى اللامع الراحل تحسين بشير رحمه الله حينما قال فى احد الاجتماعات: «لقد نجح المصريون القدماء فى تحنيط الأموات بينما نجح نظام مبارك فى تحنيط الأحياء».
وبالمناسبة لم تتول رئاسة الوزارة شخصية عسكرية طوال فترة حكم مبارك باستثناء كمال حسن على خلال فترة زمنية قصيرة ( يونيو ١٩٨٤- سبتمبر ١٩٨٥). وعندما وصلنا إلى نهاية فترة حكم مبارك كان قد تم تجريف كل شيء وجف نهر السياسة فى مصر على حد تعبير محمد حسنين هيكل.
•••
وفى ضوء هذه التجارب بحلوها ومرها، يجب ان نستخلص الدروس من أجل مستقبل جديد لمصر قائم على الديمقراطية والتعددية والعدالة الاجتماعية وهذا يقتضى بدوره بداية عمليات نقد ذاتى لكل القوى السياسية الإسلامية والليبرالية واليسارية لتجاوز عثرات الماضى وتجديد الخطاب والممارسات التى أدت بنا إلى هذا المأزق الذى نحن فيه. «وما استعصى على قوم منال اذا كان الإقدام لهم ركابا