من جاء ليقتلك بادر بقتله - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الأربعاء 1 يناير 2025 6:01 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من جاء ليقتلك بادر بقتله

نشر فى : الأحد 29 ديسمبر 2024 - 6:15 م | آخر تحديث : الأحد 29 ديسمبر 2024 - 6:15 م

ظلت حدود إسرائيل مع سوريا، بعد حرب أكتوبر 1973م، وتوقيع اتفاقية فض الاشتباك عام 1974م، الأكثر أمنًا، مقارنة بحدودها مع سائر الدول المحيطة، باستثناء حادثة واحدة فقط، جرت خلال الغزو الإسرائيلى للبنان عام 1982م، اشتبكت فيها مدرعات سورية مع قوات إسرائيلية، قريبًا من منطقة البقاع اللبنانية، فى 11 يونيو 1982م، وكبّدتها خسائر فادحة، عُرفت باسم معركة «السلطان يعقوب».
حرص النظام السورى، طوال سنوات حكم «آل الأسد»، منذ عام 1970م، وحتى فرار بشار الأسد إلى روسيا فى 8 ديسمبر 2024م، بعد سيطرة فصائل المعارضة على دمشق، على ألاَّ يستفز إسرائيل، رغم تعرض سوريا لآلاف الهجمات وعمليات القصف الجوى الإسرائيلية، ورغم ضرب إسرائيل لمفاعلها النووى بمنطقة «دير الزور» فى 6 سبتمبر 2007م. أى أن نظام «آل الأسد»، وباستثناء تحالفه مع إيران و«حزب الله»، كان نظامًا نموذجيًا بالنسبة لإسرائيل.
اكتفى نظام «آل الأسد»، فى كل مرة تتعرض فيها سوريا لقصف من جانب إسرائيل، ببيانات الشجب والاستنكار والاحتفاظ بحق الرد، ولم يُطلق رصاصة واحدة على إسرائيل، ربما إدراكًا منه لحجم قوته فى مقابل القوة الإسرائيلية، ولم يدخل فى مغامرة عسكرية ضدها قد تفقده الحكم. قدَّرت إسرائيل، للوهلة الأولى، بعد سقوط بشار، أن القادم فى سوريا مجهول، فاجتاحت قواتها الأراضى السورية على الفور، وانتهكت معاهدة فض الاشتباك، واحتلت مرتفعات جبل الشيخ السورية، ذات الأهمية الاستراتيجية، التى تسميها المصادر الاستخبارية الإسرائيلية «عيون الدولة»، بسبب ارتفاعها، وإشرافها على سوريا والأردن وفلسطين ولبنان، وطردت سكان بعض القرى السورية منها، وأصبحت تهدد العاصمة، دمشق، بعد تمركز قواتها على بعد نحو 25 كم منها، وأعلن كبار مسئوليها عن نيتهم الاحتفاظ بهضبة الجولان السورية إلى الأبد، وعدم التنازل عنها مستقبلًا، وعن تكثيف الاستيطان بها.
كما قامت بضرب كل مقدرات الجيش السورى من طائرات، وبوارج بالموانئ، وأنظمة دفاع جوى، وقدرات صاروخية، ومخازن أسلحة، وأنظمة رادار، ومعامل أبحاث، وغيرها، خشية أن تئول إلى النظام الجديد. ودعا بعض المسئولين الإسرائيليين إلى التدخل فى سوريا، وتكريس الانقسام بها، من خلال استقطاب الدروز فى الجنوب والأكراد فى الشمال، وإلى إعادة إحياء ما سمَّاه، البروفيسور، يهودا بلنجا، «حلف الأطراف أو الضواحى، بمعنى، تنمية أحلاف استراتيجية مع العناصر التى تواجه التهديد الأكبر، التى تحتاج إلى دعم وتستطيع مساعدتنا فى مواجهة عدو مشترك محتمل».
جرى كل هذا الكم المهول من العدوانية الإسرائيلية، دون أن تطلق جماعات المعارضة السورية، السيد الجديد للبلاد، رصاصة واحدة على إسرائيل، فضلًا عن إطلاق قادتها تصريحات مطمئنة لها، خاصة، أعلنوا فيها أنهم غير معنيين بالدخول فى حروب مع أحد، وبأنهم سيتعاملون مع احتلال إسرائيل للأراضى السورية الجديدة، بما فيها هضبة الجولان، عبر الضغط الدبلوماسى وليس عبر فوهات المدافع.
• • •
كيف يمكن، إذا، على ضوء كل ما سبق، أن نفسر السلوك العدوانى الإسرائيلى تجاه سوريا وتجاه نظام الحكم الجديد، خاصة؟ هناك "تخوفات" إسرائيلية، بالطبع، من حدوث فوضى فى سوريا، ومن سيطرة فريق إسلامى، بعينه، على الحكم، ومن تمدد النفوذ التركى؛ ولا يجب أن نغفل سياسة فرض الأمر الواقع، التى تستهدف تحقيق مكاسب على المدى البعيد، قد تتمثل فى مساومة النظام السورى الجديد على هذه الأراضى من أجل فرض اتفاقية "سلام" عليه، وإخراجه من معادلة الصراع.
كلها عوامل استراتيجية حاكمة ومؤثرة، لكن إذا أردنا أن نعرف محدِّدات "الخطفة" الإسرائيلية، ومرتكزات السلوك العسكرى الإسرائيلى، بعامة، لا فرق فى ذلك إذا كان "اليمين" أم "اليسار" فى سدة الحكم، فعلينا ألاَّ نهمل، البعد الدينى، أيضا.
علينا أن ندقق، جيدا، فى المصادر الدينية اليهودية، التى يتغذى عليها السلوك الإسرائيلى، من نصوص توراتية، وتلمودية، وتفاسير حاخامية لها. سنجد، بالتأكيد، ضالتنا. هذا هو البعد الغائب الحاضر دائمًا. إذ للمصادر الدينية اليهودية سلطان مؤثر على سلوك الجماعة اليهودية؛ وقد أوضحنا، فى مقال سابق، أن برنامج العمل الصهيونى، الذى تبناه، تيودور هرتسل، نفسه، فى القرن التاسع عشر، القائم على الاستيطان وترهيب وقتل السكان الفلسطينيين (انظر مقال: «ألا ما أشبه الليلة بالبارحة»، 9 ديسمبر 2024م)، منقول بالحرف الواحد من سفر «نحميا»/الإصحاح الرابع عشر. المصادر الدينية اليهودية حاضرة، بقوة، فى خلفية تفكير الجماعة اليهودية، على اختلاف انتماءاتها.
• • •
تُقرَأ «الخطْفة» الإسرائيلية فى سوريا، فى نظرى، فى ضوء تفسير المبدأ التلمودى، القائل: «من جاء [أو قام] ليقتلك بادر [أو «بكِّر»] أنت بقتله». النص الدينى، هنا، يحاسب الآخر على مجرد النية، التى قد تتغير بين لحظة وأخرى، وهو ما فعلته إسرائيل، بالضبط، تجاه الوضع الجديد فى سوريا. ورد النص، المذكور، فى التلمود البابلى، مبحث "سنهدرين"، ص 62، العامود (أ)، ومصدره الجدل الدينى حول فقرة بسفر «الخروج» بالتوراة (22، 2)، تقول: «إن وُجد السارق وهو يَنْقُبُ، فضُرب ومات، فليس له دم». تشرح «الجمارا» -شروح التلمود- أن سبب إباحة التوراة دم من أتى خلسة بغرض السرقة هو أنه من المرجح أن اللص يأخذ فى الاعتبار أن صاحب البيت سيحاول الدفاع عن ممتلكاته، ولأنه (أى اللص) مصممٌ على فعل السرقة فإن فى نيته أن يقتل صاحب البيت فى حال ما إذا حال بينه وبين السرقة، لذا يجوز لصاحب البيت أو لإنسان ثالث أن يستبق ويقتله (أى اللص).
ثمة مصدر آخر للمبدأ التلمودى موجود فى التفاسير اليهودية للتوراة للأمر (الإلهى) لموسى فيما يخص التعامل مع «المديانيين»، الوارد فى سفر «العدد»، [الإصحاح 25، الآيات 17-18]: «ثم كلَّم الرب موسى قائلًا: ضايقوا المديانيين واضربوهم لأنهم ضايقوكم بمكايدهم…».
فسَّر الفقهاء الكبار الآية التوراتية، ومنهم تفسير «راشى»، الشهير، بأنها توجب التعامل مع المديانيين على أنهم أعداء ومن ثم توجب قتلهم، لكونهم يكرهون بنى إسرائيل، ويضايقونهم، ولأنهم دبَّروا أفكارًا شريرة واختلقوا أكاذيب ضدهم. الأمر الموجب لقتل الخصم، هنا، هو مجرد الكراهية. وثمة جدل بين فقهاء الشريعة اليهودية حول مسألة: هل يُعدُ قتل من نوى قتل يهودى فرضًا وواجبًا دينيًا أم مجرد تبرير لفعل القتل؟ يرى الحاخام، موسى بن ميمون، أنه إذا كان الأمر يتعلق بإنسان ينوى القتل، بشكل مؤكد، فإنه يجب إنقاذ الضحية المفترضة وقتله؛ أما إذا لم تكن نيته معقودة على القتل وإنما يتعلق الأمر باحتمال حتى وإن كان كبيرًا، فإنه لا يجب قتله وإذا قُتل فإن قاتله يُعفى من العقوبة.
يتوافق المبدأ التلمودى، وشروح الحاخامات وكبار المفسرين اليهود له، مع النظرية العسكرية الحديثة، التى تتبناها إسرائيل، منذ نشأتها، وتنفذها بحذافيرها، المسمَّاة بـ«الضربة الاستباقية» أو «الوقائية» أو «الإجهاضية». وهى نظرية يقرها، ويشجع عليها الحاخامات المعاصرون، ومن بينهم الحاخام الأكبر السابق لتل أبيب، حييم دافيد هليفى، الذى «أفتى» بأن المبدأ التلمودى مبدأ واقعى يتناسب مع العصر الذى نحيا فيه وأنه «إذا شعرت أمة بشكل مؤكد بأن أعداءها يدبرون خططًا للتنكيل بها، فإن الواجب يقتضيها أن تشن ضربة (وقائية) عملًا بمبدأ (من جاء ليقتلك بكِّر واقتله)». لذا لم يكن مستغربًا أن يلقى تحفظ رئيس الأركان الإسرائيلى السابق جادى آيزنكوت، على هذا المبدأ التلمودى، وقوله إن الجيش الإسرائيلى «لا يعمل طبقًا لشعارات من قبيل (من جاء ليقتلك بكر واقتله)، لا أريد أن يُفرْغ الجندى خرطوش سلاحه فى فتاة (فلسطينية) تحمل مقصًا»، انتقادات من جانب دوائر اليمين، خاصة، وأن يثير جدلًا عامًا، حول أخلاقية هذا المبدأ، وكان من أبرز منتقديه، الحاخام الأكبر للسفاراديين يتسحاق يوسف، الذى قال فى أحد دروسه الدينية: «إذا أتى (مخرب) إلى أحدهم يحمل سكينًا، فمن الواجب الدينى قتله (من جاء ليقتلك بكر واقتله)، عليه ألا يخاف من أن تُرفع بعد ذلك دعاوى ضده (ضد القاتل) أمام محكمة العدل العليا، أو أن يأتى رئيس أركان ما ويقول شيئًا مختلفًا، لا يجب الخوف».
• • •
من ناحية ثانية، يتكاتف الأدب الإسرائيلى مع المصادر الدينية اليهودية، ويشيطين الآخر، ويحاسبه على النوايا، ويبرر التدخل فى شئونه، إذ تصف إحدى القصائد سوريا، فى ظل حكم الأسد، وفى ظل النظام الجديد، على حد سواء، بأنها دولة عدو، وبأن كل الدول تتدخل فى شئونها، فلماذا تؤاخذ إسرائيل، إذًا، وبأن النظام الجديد نظام «متطرف قاسٍ» يمثل خطرًا على إسرائيل لا يقل عن أخطار الزلازل. تقول بعض أبيات القصيدة: «تعالوا نتحدث عن الجارة الشرقية سوريا/الدولة التى حرَّف اسمُها اسمَ الأشوريين (...) الدولة التى حكمها مستبدٌ اسمه «أسد»/ انتقلت من أب لابنه الدكتاتور الملقب «طبيب»/ هى من الدول التى تتسم بلقب «دولة عدو»(…) فى كل جولة تُنثر الزهور مجددًا على المتمردين/ رغم أنهم سيئون مثل من سبقوهم فى القسوة. (...) إيران وروسيا وتركيا أيضا تقلِّبْن عميقًا/بداخل القِدْر الذى تُطهى فيه جرائم دمشق الثلاثين أيضًا (...) من حلب، وحُمص وحماة يتردد رجْع صدىً قاتم، مفاده: «الصَّدْع السورى المتطرف يتحرك غربًا»!

أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة

 

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات