لم تضع الحرب أوزارها بعد، لكن المطابع الإسرائيلية تضخ عشرات الكتب عنها، ما بين كتب تروى حكايات عن بطولات مزعومة، وأخرى تفيض فى وصف مشاعر الخوف، والهلع، التى انتابت مستوطنى غلاف غزة خلال هجوم السابع من أكتوبر عام 2023م، وما أكثرها، وكتب تقارن بين السابع من أكتوبر والمحرقة النازية، وتعدها من أكبر الأحداث التى تعرض لها اليهود فى تاريخهم، وتجتهد فى ترسيخ هذا الربط، وكتب تعبر عن انطباعات إزاء الحرب، شعرًا ونثرًا، وكتب تحلل الأسباب، والدوافع، والخلفيات، وأوجه القصور، والمآلات، وما ينبغى وما لا ينبغى أن يكون.
كمٌ مهولٌ من الكلمات تسابق الزمن لتثبيت وفرض سردية إسرائيلية بعينها، إزاء الحرب ومجرياتها. شغف يهودى قديم، ومتوارث، عبر الأجيال، بمسألة التدوين وفرض السردية. على الجانب الآخر، الفلسطينى خاصة، والعربى عامة، ثمة ركونٌ إلى عدالة القضية وحسب، مع غياب مؤثر للتدوين. كم كتابًا صدر، حتى الآن، باللغة العربية، يروى لنا الأسباب التى أدت إلى «طوفان الأقصى، من حصار وتضييق، ووأد للقضية الفلسطينية، ومن تمدد استيطانى»؟ كم كتابًا صدر يروى لنا المأساة الفلسطينية قبل انفجار السابع من أكتوبر؟ كم كتابًا صدر يتحدث عن التخطيط المحكم، وعناصر المباغتة، فى هذا اليوم، وعن بطولات وتضحيات الفلسطينى، لاحقًا؟ كم كتابًا صدر يوثق المأساة التى يعيشها أهل القطاع، الآن، من تجويع وإبادة ممنهجين؟ الكلمة لا تقل أهمية عن الرصاصة، والسرد والتدوين لا يقلان أهمية عن النضال بالسلاح. عدالة القضية وحدها لا تكفى بدون شرح، وتوثيق.
• • •
يستعرض المقال خلاصة كتابين من الكتب، التى صدرت فى إسرائيل عن الحرب. فضلًا عن مسألة الشغف المتوارث بالتدوين لدى اليهودى، فإن اختلاف هذه الحرب عن كل الحروب السابقة كان محفزًا لإصدار كل هذا الكم من الكتب. عن هذا الاختلاف يقول الكاتب، أهرون لبيدوت: «كانت كارثة السابع من أكتوبر النقيض التام لحرب الأيام الستة. فى السابع من أكتوبر بوغتنا تمامًا، بدلًا من المبادأة التى كانت بيد إسرائيل فى حرب الأيام الستة. فى السابع من أكتوبر أصيبت إسرائيل بالعمى وبالخرس إزاء الإعدادات المحمومة من جانب حماس فيما وراء الجدار، على بُعد بصْقة من مستوطنات الغلاف، خلافًا للتخطيط المحكم الذى كان آنذاك فى 1967م؛ فى السابع من أكتوبر تعرضنا لإذلال رهيب، وتحطم الردع وتضررت أسطورة الجيش الإسرائيلى تضررًا بالغًا، فى مقابل الكبرياء القومى فى أعقاب النصر الباهر على جيوش نظامية لثلاث دول ومضاعفة رقعة الدولة ست مرات تقريبًا؛ فى 1967م بلغ عدد الضحايا 736، أما الحرب فى غزة فما تزال مستمرة، لكن عدد ضحاياها تجاوز الـ1600 منذ فترة، وما يزال 101 مخطوفًا فى أنفاق غزة».
• • •
من الكتب التى صدرت كتاب بعنوان: «ما وراء الستار الحديدى» للمؤرخ الإسرائيلى، أورى بر يوسف، وهو كتاب يناقش نظرية الأمن الإسرائيلية على خلفية ما جرى فى السابع من أكتوبر 2023م. ينسف الكتاب النظرية الصهيونية، التى وعدت يهود العالم بتوفير بيت آمن، إذ يقول المؤلف فى المقدمة: «كيف حدث بعد 76 عامًا من الوجود والاستثمارات اللامحدودة فى بناء شبكة كبيرة وقوية من الأمن، أن المشروع الصهيونى لم ينجح حتى الآن فى الوفاء بمهمته الرئيسة: توفير وطن آمن لليهود؟».
يفند الكتاب، من جانب آخر، نظرية الزعيم الصهيونى، المتطرف، زئيف جابوتنسكى، النموذج الذى يحتذيه بنيامين نتنياهو، القائمة على التعامل مع العرب كافة بالقوة، وبمزيد من القوة، المعروفة باسم: «الستار الحديدى»، حيث يستنتج، طبقًا لما حدث فى السابع من أكتوبر، أن الأمن الإسرائيلى لا يمكنه أن يعتمد على القوة العسكرية فقط، زاعمًا بأن هذا التصور كان صحيحًا حتى 1967م، لأنه لم يكن لدى إسرائيل، بحسب قوله، ما تعطيه للعرب فى مقابل اعترافهم بها، لكن الوضع تغير، وعليها الآن، أن تعتمد على التسويات السياسية أيضا، مع دول الجوار، أو كما يقول الكتاب: «يثبت الواقع أن التسويات السياسية خلقت وضعًا مريحًا لكلا الطرفين، مثل اتفاقيتى السلام مع مصر والأردن، وأنها أسهمت، فى الأغلب الأعم، فى تحقيق أمن الدولة أكثر من بناء القوة».
ثمة نقطة مهمة بالكتاب تنقض مزاعم البعض منا، خاصة، الذين يحمّلون فصائل المقاومة الفلسطينية المسئولية عن تفجر الوضع بالمنطقة، ويلومونها على ما فعلت، إذ يتهم الكتاب، رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، بأنه السبب فى اندلاع السابع من أكتوبر، بسبب حقيقة «رفضه الدءوب لأى تفاوض أو تسوية سياسية منذ عام 2009، وعدم استيعابه لدروس التاريخ، ولا للثمن الذى ندفعه».
يشير الكتاب، فى تطرقه لمسألة التصور الإسرائيلى للأمن، الذى يسميه «أم الخطايا»، إلى التأثير المتزايد للأيديولوجية الدينية الماشيحانية (رؤية غيبية تعتمد على أسفار الرؤى فى التوراة، مثل «حزقيال» و«إشعياء»، تؤمن بتجمع كل يهود العالم فى فلسطين فى آخر الزمان، ونزول المسيح اليهودى المخلص، وبناء الهيكل الثالث، وخضوع أمم العالم كافة، بمن فيهم النصارى، حتى وغيرهم، للسيادة اليهودية، وشيوع عصر من السلام)، فى قدرة متخذى القرارات فى إسرائيل على إدارة سياسة أمن قومى على أساس الاعتبارات المهنية للأمن فقط. يستشهد الكتاب، فى هذا الصدد، باعتراض حركة «جوش إيمونيم» - كتلة الإيمان- الاستيطانية، الماشيحانية، التى كانت جزءًا من الحزب الدينى القومى الإسرائيلى - «المفدال» - عام 1974م على توقيع اتفاق سلام مع الأردن، بسبب مفهوم «عدم التنازل عن شبر واحد» ما يُسمّى بـ(أرض إسرائيل).
من الجدير بالذكر أن قطاعًا عريضًا من الشعب الإسرائيلى اليوم، يتبنون هذه الأيديولوجية، ولهم تمثيل لا بأس به داخل البرلمان الإسرائيلى -الكنيست - وفى الحكومة الإسرائيلية، ومن الصعب على أى زعيم سياسى أن يتجاهلهم أثناء اتخاذ قرارات سياسية مهمة، فى مقابل تقلص القطاع الذى يؤمن بحل الدولتين وبإجراء تسوية سياسية مع الجانب الفلسطينى.
• • •
من الكتب الأخرى، التى تناولت الحرب، كتاب «الحياة فى حرب»، للعقيد احتياط دكتور دوف تامارى. الكتاب أشبه ما يكون بسيرة ذاتية لمؤلفه، مع تحليل تاريخى عسكرى لأحداث مركزية فى تاريخ إسرائيل. يشير الكتاب إلى حقيقة أن الحرب جزء من كينونة الإسرائيلى، وإلى أنها تلازمه مثل ظله، وتصوغ حياته، حيث يقول: «الحرب هى العنصر الذى يصوغ حياتنا.. إنها متجذرة فى كينونتنا، حتى إنها اكتسبت وضع الشىء الذى يرتب أمور المجتمع الإسرائيلى».
لم يأتِ الكاتب بجديد فى هذه النقطة، التى سبقه إليها، فى ستينيات القرن الماضى، كاتب مسرحى إسرائيلى شهير، يُدعى، حانوخ ليفين (1943م ـ 1999م)، فى قصيدة بعنوان: «أنتِ وأنا والحرب القادمة»، كتبها فى أعقاب حرب 1967م، ضمن مسرحية غنائية، تحمل العنوان نفسه، يقول فيها الجندى، الذاهب إلى الحرب، مخاطبًا زوجه: «حين نتنزه، نكون ثلاثة/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ حين ننام، نكون ثلاثة/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ التى هى خيرٌ لنا/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ التى ستمنحنى راحة أبدية/ حين نبتسم فى لحظة حب/ تبتسم معنا الحرب القادمة/ حين ننتظر فى غرفة الولادة/ تنتظر معنا الحرب القادمة/ حين نطرق الباب، نكون ثلاثة/ أنتِ وأنا والحرب القادمة/ وحين يأتى الأجل ويُقضى الأمر، نحن مرة أخرى ثلاثة/ الحرب القادمة وأنتِ وصورتى».
من النقاط الأخرى الجوهرية، التى يتناولها كتاب العقيد احتياط الدكتور دوف تامارى، أن إسرائيل استمرت فى العمل بمقتضى نظرية الأمن التى اعتُمدت قبل حرب يونيو 1967م من دون أن تجرى تعديلات عليها، ما أدى إلى وقوع «أخطاء فادحة»، بحسب تعبيره، مشيرًا إلى أنها اعتمدت اعتمادًا كليًا على ما سمّاه «التحذير الاستخبارى»، وإلى أنها دفعت ثمن ذلك فى حرب أكتوبر 1973م؛ وهو يوصى فى الكتاب على ضوء ما حدث فى السابع من أكتوبر 2023م، بضرورة التحول من التحذير المحدد من حرب وشيكة غايته تعبئة قوات الاحتياط (فشل هذا التحذير فى 1973م وفى 2023م على حد سواء) إلى التحذير من عمليات واسعة، ومن تغيير فى الواقع ومن التبعات المحتملة».
يدعو المؤلف على ضوء فترات خدمة الاحتياط الطويلة التى قضاها الجندى -المواطن، خلال هذه الحرب - ما يقرب من 200 يوم خلال السنة - إلى صياغة عقد اجتماعى جديد بينه وبين الدولة بحيث يكون متداخلًا ومؤثرًا فى قرارات الحكم، وطبيعته، وفى القرارات المتعلقة بالحرب [...] من حق وواجب الجندى - المواطن أن يعارض حدوث تغيير جوهرى فى نُظم الدولة من جانب، وأن يعترض على الخروج فى عملية عسكرية، أو معركة أو حرب بأمر من الحكومة من جانب ثان [...] من اللحظة التى اختار فيه الحكم تغيير طبيعة الدولة (فى إشارة إلى التعديلات التى اقترحتها حكومة نتنياهو فى مجال القضاء)، فإن من حقه الجندى - المواطن أن يرفض تعريض حياته للخطر بأمر منها».
• • •
نحن أمام طيف واسع من الكتابات الإسرائيلية، التى تتقصى الأسباب، وتنتقد الأداء، وتستخلص العبر والنتائج، وتقدم سردية فى مقابل شُح، ويا للأسف، فى الكتابات الفلسطينية والعربية.