ذاكرة الحيطان قبل آذانها - خولة مطر - بوابة الشروق
الإثنين 23 ديسمبر 2024 6:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ذاكرة الحيطان قبل آذانها

نشر فى : الإثنين 30 مارس 2015 - 9:55 ص | آخر تحديث : الإثنين 30 مارس 2015 - 9:55 ص

للحيطان ذاكرة ليس فقط تلك الشخبطات عليها أو بعض من الشعارات أو رسوم الجرافيتى التى انتعشت منذ أن تفتحت الميادين على أصوات وحناجر شباب هذه الأوطان المتعبة.. ولها أيضا تاريخ رغم أن هذا الأمر يغيب عن الكثيرين الذين يقتربون منها كل يوم فى مساراتهم دون أن يلحظوا كم للحيطان من ذاكرة وكم لها من أهمية فى تدوين تاريخ هذه المدن المغموسة بالدم..

قبل الإنترنت وكل وسائل التواصل الاجتماعى التى فتحت فضاءات واسعة للشباب كانت الحيطان هى فضاءهم ومساحاتهم التى يفرغون فيها شحنات مما يحسون وكثير من مشاعرهم وانفعالاتهم.. لا تزال هى فى كثير من المدن، التى لم تعمد بناطحات السحاب وتفتخر بأعلى برج وأغلى عربة مرصعة بالذهب، الوسيلة المثلى لتلك الطاقة الكامنة.. بالطبع ليس كلها إيجابيا وجميلا فالشباب لا يستطيع أن يتحكم ويسيطر وينمق ما يقول، هو يجارى انفعالاته كالشلال المتدفق أو النبع من باطن الأرض لا يوقفه شجر ولا حجر..

•••

كانت جدران المدن هى صحيفتها ووسيلة لنقل الأخبار والأنباء من الصغيرة والتى تبدو تافهة منها حتى الأكثر أهمية مثل الدعوة إلى تجمع أو ندوة ثقافية أو تظاهرة.. كانت هى التى تشد القادم للمدينة الجديدة حتى قال أحدهم: ادخلوا المدن من جدرانها!!!

تشكل الجدران أو الحيطان للكثير من العرب شيئا من الخوف عندما كانوا يرددون الحيطان لها آذان ويعيدون التذكير حتى يتوخى البعض الحذر عندما كان التنصت هو هم الكثيرين ليس فقط الأجهزة بل حتى البعض من الفضوليين الراغبين فى دس أنوفهم فى التفاصيل الشخصية للآخرين فى مجتمعات وثقافات لا تعرف حدود متى يبدأ الخاص وما هى حدود الخصوصية.. لذلك فقد بقى البعض يسىء الظن بها وينظر لها، أى للحيطان، بكثير من التوجس حتى حولها جيل كامل من الشباب إلى رمز من رموز الحرية والرفض لأشكال التعبير التقليدية جدا..

هى أيضا، أى الجدران، تفتح لك أبواب المدن... تشرع أمامك ثقافة كاملة وتجعلك أقرب إلى أهل المدينة التى تزور وأكثر معرفة بهمومها ومشكلاتها وحتى خفة ظلها وجمالها الروحى وليس الشكلى الخارجى.. ربما الأكثر رمزية لكل تلك الجدران هو الحائط الممتد على طول شارع محمد محمود.. ذاك الجدار الذى قاوم أى شكل من أشكال الهيمنة حتى الدينية والاجتماعية منها.. وتمثلت مقاومته فى أنه كلما مسحت الرسومات على الجدار عاد الهائمون فى الحرية إلى ملئه بما هو أجمل من الأول.. أصبح الجدار لوحة فنية كثيرة الرسائل الجميلة رغم قساوة المغزى المخبأ فى تفاصيلها..

•••

وهناك أكثر من محمد محمود بكل مدينة عربية.. فلا تستطيع أن تنسى كيف كان ذلك الجدار صادما حتى الحزن عندما وطئت قدماك أرضها وكيف كان أكثر تعبيرا من كل ما قيل لك بعدها وكل ما قرأت قبلها.. اختزل الجدار معاناة أهل تلك المدينة الراكنة فوق الجبل التى كانت حتى قبل وقت قصير تداعب الغيم بعض الوقت وتأكل من كثير من زرعها حتى تحولت شوارعها إلى حطام وسقطت جدرانها فوق رءوس الأطفال الصغار.. لم تستطع أن تحميهم رسوماتهم ولكنها ستبقى تدون كثير من تاريخهم حتما !!!

وفى مدينة أخرى اتشحت الحيطان بالسواد الداكن لتمحو ما تحتها من كلام موجع.. ربما استطاع السواد أن يمحو الكلام بعض الوقت ولكنه لم يقضِ على الوجع الذى بقى ينتقل من جدار إلى آخر حتى أصبحت الجدران كالعباءة التى تلبسها نساء تلك المدينة سوداء بلون الحزن..

•••

الحيطان ليست لها آذان بل لها ذاكرة أيضا أكثر عمقا من الأذن التى تسمع وتنسى سريعا عندما أصبح النسيان مرض العصر حتى بين الأكثر قربا.. الحيطان لا تنسى بل تبقى تتذكر ورغم الكثير من الهدم والدمار لا تلبث أن تعود تحكى الكثير والكثير مما كان وبقى ملامسا لهذه المدينة أو تلك.. وأول ما تتعافى المدن لا تلبث أن تبحث عن بقايا جدار هنا لتكمله بسيرة وسير لحيوات وبشر وخير وكثير من الشر الذى أصبح مرادفا لكل عربى !!

خولة مطر  كاتبة صحفية من البحرين
التعليقات