لملمت كل أغراضها من تلك الخزانة العتيقة، راحت تفصل الملابس وترسل بها للجمعيات الخيرية، فلم تلبسها منذ سنين، بعضها لتغير عوامل الزمن، وأخرى لتغير عوامل الجسد.. وكانت صديقتها تكرر عليها «ثوابه ولا هجرانه»، وعلى الرغم من أنها لا تؤمن كثيرا بالثواب القادم عبر التبرع بفستان فإنها رأت أن الفكرة جميلة وأن كل ما يبقى فى خزانة المرأة أكثر من ستة أشهر دون لبس الأفضل أن يكون من نصيب أخرى هى أحق به.. ولكنها وقفت عند فستانها ذاك...
تطلعت لذلك الفستان وأخذته بين يديها كأنها تحتضنه، فكرت مليا هل تضيفه إلى الحقيبة التى ستذهب إلى الجمعية الخيرية للمحتاجات واللاجئات والمعنفات وأخريات كثر، أم أنها ستبقيه.. احتضنته أقرب إلى قلبها، جلست على حافة السرير، جاءتها رائحته المخزنة منذ أكثر من عشرين عاما.. راحت بالذكريات إلى تلك اللحظة قبل كل تلك السنين أو أكثر إلا أنها باقية كما لو كانت البارحة.. كان مساءً ربيعيا نادرا ونسمة لطيفة تداعب النخيل المحيط بذلك المنزل وهو يستعد لحفلة عشاء لشلة أصدقاء حميمية.. ذهبت هى قبل الجميع تحت ادعاءات مختلفة منه ومنها لماذا لا تأتى لتساعدينى فى تحضير الطعام على الرغم من أنه يعرف كما يعرف الجميع أنها لا تعرف من المطبخ غير كوب الماء المثلج.. فى تواطئ منها قبلت وقضت يومها تستعد لذلك المساء الذى عادة ما يبدأ باكرا..
استعرضت كل فساتينها وقضت نصف اليوم فى اختيار ما هو الأنسب.. وبعد طول انتظار اختارت ذاك الفستان الأزرق كلون البحر قالت وهى تعشق البحر.. وتذكرت أنه فى إحدى الجلسات الحميمية مع نفس تلك الشلة قال إن الأزرق هو لونه المفضل وتفاجأ الجميع ليلتها فعادة ما تكون النقاشات حول فلسطين والوضع العربى والظلم الذى جمعهما.. إلا أنها حملت كتابا حول أغانى أم كلثوم فكيف كتبت وفى أى ظروف ومن كتبها ومن لحنها والتحضير له حتى حفلة يوم الخميس الشهيرة.. هى استحوذت على الجلسة ربما بعلمها وربما فقط لأن المرأة عندما تكون فى حضرة الحب تتألق وتحيطها هالة من بريق نادر.. ضحكوا وأكلوا وشربوا وهو بقى ساكتا يحضر الطعام ويساعد ضيوفه ويسترق النظرات لها وحدها وكأن لا أحد هناك....
***
كانا قد التقيا أصلا فى ندوة حول فلسطين القضية وبحضور ممثلين عن عدد من الفصائل.. لم يكن بتلك الندوة شىء مميز غيره. كانت مرحلة الستينات وفلسطين هى القضية الأولى والأخيرة لكل العرب والحديث يطول فقط حول الطريق لتحريرها، حيث اختلفت الفصائل وانقسم العرب بعض الشىء على ــ ربما ــ كيفية التحرير فمنهم من أدان خطف الطائرات وأخذ الرهائن وآخرين رفعوا شعار الكفاح المسلح، وعلى الرغم من كل هذا الصراخ والاختلاف بقيت القدس حينها جوهرة العرب كل العرب دون اختلاف. والقدس عروس عروبة كل العرب..
انتهت تلك الندوة فقررت الشلة الذهاب إلى مطعم قريب لتناول العشاء وتحليل ما دار ربما أو الاستمرار فى الحوار كلٌّ محاولا إثبات أن رأيه هو الأصح وهو الطريق لخلاص الفلسطينيين وتحرير فلسطين والقدس!. كان زمن الأحلام الجميل والطقس أيضا يشارف الربيع أو بين بين وهى برشاقة الشابة فى أول العشرينيات.. سارا مع الجميع وكأنهما لوحدهما أحست به يتابعها بعينيه كلما تحركت ويحاول الاقتراب أكثر فأكثر ويبدأ حديث خاص بعيد ــ ربما ــ عن فلسطين ولكن ليس بعيدا عن القلب الذى تسكنه... كانت هى أجرأ منه حتى حينها وبعدها عندما التقيا بعد سنين عدة.. فقد بادرت بطرح الأسئلة والمضى فى حديث تنقل بين عبدالوهاب والموسيقى الكلاسيكية وآخر قصائد نزار وأدونيس ورواية جميلة كانت مستمتعة بقراءتها.. زاد حديثها من ارتباكه فهو الدارس للعلوم المتنقل بين العلوم والسياسة فقط كيف له أن يجارى هذه القارئة المتابعة التى تراقص الحياة بكل جوارحها وتفاصيلها.. أحست بذلك بذكاء لم يفارقها حتى السنين الأخيرة، فانتقلت للحديث فى السياسة المساحة الأكثر راحة بالنسبة له..
***
وهى مستغرقة فى هذا التفكير جاءتها أصوات تطالبها بالانتهاء سريعا من فرز الملابس فلم يعد هناك وقت وعليهم أن يتحركوا وإلا فلن ينتهوا من لملمة الذكريات فى ذلك البيت المطرز بها.. استفاقت فجأة من تلك الأحلام.. أخذت نفسا عميقا من رائحة الذكرى المخزنة فى الفستان ولفته بكيس من الدانتيل ووضعته فى مكان فى حقيبتها الخاصة جدا وابتسمت أولا لأنها لا تزال تملك هذه الذكرى الجميلة فقد يكون هو قد رحل وابتعد كثيرا وقد يكون ذاك الحب المتوهج الذى بقى لسنين كلما تصورا أنه انطفأ عاد واشتعل مع أول لقاء، قد يكون قد خفت وهجه ولكنه ترك علامة فى القلب.. حملت كيس الدانتيل وقفت محاولة أن تصلب طولها وضحكت..