التضخم العنيد وثمنه - محمد الهوارى - بوابة الشروق
الجمعة 27 ديسمبر 2024 6:04 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التضخم العنيد وثمنه

نشر فى : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:15 م | آخر تحديث : الجمعة 30 سبتمبر 2022 - 7:15 م

منذ بداية وباء الكوفيد اللعين الذى تزامن بالنسبة لى مع إطلاق صندوق استثمار جديد، اكتسبت عادة جديدة وهى العمل لمدة نصف يوم على الأقل خلال عطلة نهاية الأسبوع المقدسة لدى الحضارات الغربية عامة خاصة السويسرية. وقد زادت أهمية هذه العادة عندى حتى أصبحت مؤخرا عادة ضرورية للتفكير والتخطيط للأسبوع التالى دون المقاطعات المعتادة. كما ذكرت فى مقالات سابقة، هناك أنواع عديدة لصناديق التحوط ونوع الصندوق الذى أطلقناه مؤخرا من النوع المسمى Global Macro الذى يعتمد على توقع اتجاهات الاقتصاد العالمى ويحدد على أساسها الفرص والمخاطر واحتمالات حدوثها، وبالتالى كيفية الاستفادة من هذه الفرص وكيفية إدارة المخاطر المقدرة فيها. ولتحقيق ذلك، نقوم ببناء سردية Narrative لما يحدث فى العالم، ما نتوقعه وما هو خارج دائرة توقعاتنا. وفى كل عطلة نهاية أسبوع أقوم بتقييم الأحداث الجارية لتقييم مدى واقعية السردية المفترضة والتغيرات الهامة التى طرأت والتى قد تدفعنا لمراجعة توقعاتنا ثم أقوم بتحديد الخطوات القادمة وكيفية إدارتها. خلال العام الجارى بالذات أشعر يوميا وكأننى ألعب مباراة شطرنج طويلة طرفها الآخر هى تطورات الاقتصاد العالمى. فيما يلى سأحاول تلخيص السردية التى نراها تتسيد صورة الاقتصاد العالمى حتى نهاية العام القادم.
ينقسم العالم لعدة دوائر كبيرة بداخلها دوائر أصغر وبعضها متداخل. فمثلا فى دائرة الاقتصادات المتقدمة نجد الاقتصاد الأمريكى والأوروبى واليابانى والكندى والأسترالى. يقع الاقتصاد الصينى بين الاقتصادات المتقدمة والاقتصادات الناشئة وإن كان أقرب للناشئة فى كل شىء ما عدا الحجم، فهو من ضمن الاقتصادات الأكبر عالميا. فى داخل الاقتصادات الناشئة يوجد عدة مجموعات طبقا للحجم وطريقة إدارة الاقتصاد وحجم الثروات الطبيعية، إلخ. كل دائرة أو مجموعة تتجاوب بطريقة مختلفة مع المتغيرات العالمية. مثلا الاقتصاد الإنجليزى وإن كان محسوبا على أوروبا فى بعض خصائصه فهو أيضا اقتصاد أنجلوسكسونى أكثر جرأة وانفتاحا عن الاقتصاد الأوروبى وفى نفس الوقت تسبب الخروج من الاتحاد الأوروبى Brexit بعض المعاناة للاقتصاد جعلته فى بعض الأوجه شبيه للاقتصادات الناشئة، ما عدا أهم نقط ضعف فى تلك الاقتصادات؛ حيث إن أغلب الدين العام الإنجليزى بالجنيه الإسترلينى وهى ميزة عظيمة. إذن فرسم صورة عامة للعالم يحتاج بناء معقد حيث إن لكل بلد خصائصه. وبينما لدى البنوك الاستثمارية والصناديق الكبرى فرق عمل تغطى أسواقا كثيرة مما يعزز توزيع المخاطر، فجودة ومردود عملهم ــ فى تقديرى ــ دائما ما تكون أقل من الشركات والصناديق الأكثر تخصصا وهو ما نحاول أن نحققه فى صناديقنا.
البنوك المركزية العالمية وهى اللاعب الأساسى رقم واحد فى المنظومة عادة يكون لديها أولوية واحدة أو اثنتين أو ثلاثة على الأكثر. مثلا فى الولايات المتحدة الأولوية للفيدرالى الأمريكى هى الحفاظ على مستوى الأسعار فى نطاق تضخم حوالى ٢٪ سنويا وكذلك الحفاظ على مستوى بطالة متدنى. اللاعب الثانى الأساسى فى المنظومة هو الحكومة التى تتحكم فى السياسة المالية وكذلك فى الاتجاه العام للاقتصاد وأولوياته. للوصول لأقصى درجات النجاح يفضل أن تكون السياسة النقدية التى يقررها البنك المركزى والسياسة المالية للحكومة فى تناغم. اليوم الأولوية القصوى لأغلب البنوك المركزية حول العالم هو كبح التضخم عن طريق تشديد السياسة النقدية. هو اتجاه عكس الاتجاه السائد فى أغلب العقد الماضى وهو تيسير السياسة النقدية. فى نفس الوقت، معظم حكومات الدول المتقدمة تعمل لغلق فجوة الدخل بين الشرائح الأكثر ثراءً والشرائح الأقل فرصا. يهاجم الكثيرون إدارة الرئيس الأمريكى بايدن ولكن الأرقام فى حقيقة الأمر تنحاز لإنجازات إدارته الاقتصادية التى تركت التشديد للبنك المركزى مما يؤثر على أسعار الأصول المالية وبالتالى على الشرائح الأكثر ثراءا وفى نفس الوقت ركزت على إطلاق المبادرات المحفزة للاقتصاد الحقيقى مما يفتح فرصا أكبر أمام العامل البسيط والمهنيين. أول من نبه لقدوم هذه الموجة هو بنك مورجان ستانلى منذ عدة أشهر. فى لقاء الشهر الماضى على قناة بلومبرج مع البروفيسور بول رومر الحائز على جائزة نوبل فى الاقتصاد قال إن نتيجة هذه السياسة بدأت فى ظهور نتائجها سريعا فى شكل نمو متسارع للمرتبات فى الربع الأدنى من شرائح الدخل. هذا الاتجاه نتوقع أن يستمر لعدة شهور حتى أواخر العام القادم قبل أن يصل التباطؤ الاقتصادى فى الولايات المتحدة إلى مرحلة سيتوجب معها البدء فى تيسير السياسة النقدية من جديد ولو قليلا.
هذا التشديد طويل الأمد معناه كبح التضخم وإعادة الكثير من أسعار الأصول المالية لمستواها الطبيعى قبل أن تستأنف نموها من جديد نمو صحى بعيدا عن الجنون الذى حدث العامين السابقين. هى فرصة ذهبية للاستثمار فى الأركان الأكثر قوة فى الاقتصاد العالمى فى الوقت المناسب. التشديد أيضا معناه أن الضغط على الدول النامية التى تعانى من مشاكل هيكلية سيكون أكبر ومستمرا مع مخاطر حقيقية لهذه الاقتصادات. بالنسبة لأوروبا هذا التشديد مصحوبا بأزمة طاقة محتملة معناه مخاطر أعظم لركود فى أوروبا وإنجلترا. فى نفس الوقت تواجه الصين لحظة حاسمة فى قطاعها العقارى فإما أن تقبل الحكومة أن تقوم بابتلاع صدمة كبيرة للقطاع من ماليتها العامة أو تقرر أن يتجرع الاقتصاد مرارة انفجار بطىء للقطاع ستدفع تكلفته من تباطؤ شديد وطويل فى نموها. العام القادم سيبدأ صعبا ثم يتحول لانفراجة فقط للبلاد والشركات والهيئات التى لا تعانى من مشاكل هيكلية. أما من لا يزال يعانى من مشاكل هيكلية فى إدارته فستستمر معاناته لأعوام قادمة. قلتها من قبل وأكرر، المثال الواضح لنا مماثلا لهذا العقد هو فترة الثمانينيات والتسعينيات التى شهدت إفلاس الكثير من الدول النامية والشركات العالمية بل والأفراد. حتى على المستوى المحلى إذا نظرنا لرجال الأعمال والشركات المتسيدين المشهد فى الثمانينات سنجد أن أغلبهم قد اختفى من صدارة المشهد وحل محلهم آخرون وحدث نفس الشىء فى أواخر التسعينيات. تقديرى أننا ندخل فترة حاسمة سنرى فيها تقلبات شديدة على عدة مستويات تحتاج إدارة محنكة وسريعة للمخاطر على جميع المستويات.

محمد الهوارى مدير صناديق استثمار دولية
التعليقات