بعد كل أزمة عالمية ومواجهة العالم المتقدم لها بحزم تحفيزية يخرج علينا مجموعة من الاقتصاديين يحذروننا من موجة تضخم عالمية تأكل الأخضر واليابس حتى أصبحنا نطلق عليهم الانفلاشونيستا نسبة للمصطلح الانجليزى للتضخم Inflation والمصطلح الانجليزى لاتباع الموضة Fashionista. هو مصطلح بالطبع فيه سخرية إذ إن مخاوفهم دائما ما تظهر فى نفس الظروف وإن لم تتحقق على مدار المائة عام الماضية سوى مرة واحدة. ومع ذلك دائما ما تجد مخاوفهم صدى خاصة فى الولايات المتحدة التى ما زالت تتذكر معاناتها مع آخر موجة تضخم كبيرة فى السبعينيات من القرن الماضى. فى مايو ٢٠٢٠ نشرت مقالين بحثا عن إجابة للسؤال الأهم وقتها والذى لا يزال يحير الاقتصاديين والسياسيين حول العالم: هل نحن بصدد مواجهة عالم تضخمى أم انكماشى؟ وبعد عام ونصف أعيد زيارة أهم الاستنتاجات والتوقعات التى توصلت إليها وما تحقق منها.
تحدثت عن أحد أوجه الأزمة وهو «مرحلة التضخم Inflation أو ــ فى أسوأ أحواله ــ الركود التضخمى Stagflation» وكان أحد أهم الاستنتاجات هو «توقعى أن البنوك المركزية والحكومات فى العالم المتقدم ستستمر فى إعطاء شحنات إضافية للاقتصاد وخاصة للأسواق فى السنوات القادمة، ولا نعلم بالضبط إلى أين تذهب بنا هذه التجربة. ولكنى أراهن على نوبات متقطعة من الركود التضخمى تشبه ما عاناه العالم فى السبعينيات ولكن هذا التضخم سيكون انتقائيا ولن يكون عاما وذلك بسبب ضعف قنوات توصيل المعونات وانحسارها فى بعض القنوات الضيقة التى لا تصب فى الاقتصاد بالكامل؛ مع التأثيرات العشوائية لتغيير سلاسل التوريد العالمية Global Supply Chains». وبالفعل استمرت الدول المتقدمة فى تقديم حزم التحفيز والدعم التى ظهرت نتائجها أولا فى أسعار الأسهم خاصة فى بورصات العالم المتقدم التى وصلت لأعلى أسعارها على الاطلاق، ثم فى أسعار بعض السلع المتعلقة بسوق الطاقة المتجددة والبديلة مثل النحاس والكوبالت والليثيوم. أما عن ملاحظتى عن التأثيرات العشوائية لسلاسل التوريد العالمية فقد تحققت بالضبط كما توقعت حيث شهدنا صعودا وهبوطا مكوكيا لعدد من السلع مثل الخشب ثم الصويا ثم القطن ثم القهوة إلخ. وتوقعى أن تستمر هذه الحالة من تذبذب الأسعار حتى انحسار فيروس الكورونا تماما أو وصوله لمرحلة تنحسر فيه تأثيراته الاجتماعية والاقتصادية مثل سياسات حظر التجوال الاجبارى وإغلاق المنشآت والمؤسسات أو حصر الأعداد بها وبالتالى حصر طاقتها للعمل حيث ما زالت هذه الظاهرة سببا رئيسيا لتذبذب أداء سلاسل التوريد. من آثار هذا التذبذب كان ارتفاع مرحلى فى معدلات التضخم فى عدد من دول العالم ولكن بشكل متفاوت. فبينما كان الارتفاع أكبر من المعتاد فى الولايات المتحدة والمملكة المتحدة كان أقل من المعتاد فى ظروف مماثلة فى العديد من الدول النامية مثل مصر والتى لا نتوقع أن يرتفع فيها معدل التضخم فوق الحد الأقصى الذى استهدفه البنك المركزى لهذا العام. ساهم فى ارتفاع معدلات التضخم التزام تحالف الأوبك الموسع (الذى يشمل روسيا ويطلق عليه أوبك+ OPEC+) بسقف الانتاج المحدد لفترة طويلة مما أعطى دفعة قوية لأسعار البترول رغم انخفاض الطلب فى نواح كثيرة من استخداماته؛ مثل الطيران المدنى. أما البترول فله معنا وقفة فى المقال القادم حيث إن تحليل أسواقه اليوم وعلى المدى المتوسط والطويل له أهمية خاصة.
توصلنا أيضا فى المقالين المذكورين إلى استنتاج أن «بين الانكماش والتضخم يبدو الانكماش هو الخطر الأكبر حاليا وهو الخطر الذى أجمع عليه جميع الاقتصاديين فمنهم من يرى أن الانكماش سيتولد بعده تضخم وسيصل لدرجة خطرة ومنهم من يرى الانكماش مستمر لفترة طويلة، المرجح فى رأيى أننا سندخل مرحلة تصحيحية ستكون فى معظمها انكماشية ويتخللها مراحل تضخم انتقائى». وأظن أننا نعيش حاليا إحدى مراحل هذا التضخم الانتقائى، هى مرحلة لن تكون قصيرة تقاس بالشهور ولكنها أيضا لن تكون طويلة ولن تصل معدلات التضخم فيها إلى مراحل خطرة مثل ما حدث فى سبعينيات القرن الماضى. إذا نظرنا إلى تجارب التضخم التى مر بها العالم خلال القرون السابقة سنرى أنها دائما ما كانت نتاجا لتحفيز قوى لعنصر الطلب فى معادلة العرض والطلب. فبينما ما نراه الآن سببه أولا وأخيرا هو عنصر العرض بسبب تذبذب سلاسل التوريد أو بسبب التزام الأوبك+ بمعدلات التوريد فتاريخيا لم يكن ذلك أبدا فى حد ذاته سببا كافيا لتسارع التضخم أو دخول السلع فى دورة تضخمية كبرى أو ما يطلق عليه Commodity Super Cycle. السلع بالتأكيد حاليا فى دورة تضخمية ولكنها مرحلية وليست مستدامة. عودة لفكرة أهمية تسارع الطلب فى معادلة العرض والطلب لاستدامة ارتفاع أسعار السلع، فالعالم دخل عددا من هذه الدورات فى خلال القرون السابقة مثل دورة دخول الصين فى اتفاقية التجارة الحرة الجات وبالتالى تزايد الطلب على السلع من الاقتصاد الصينى الوليد. قبل ذلك مرحلة إعادة الإعمار التى تلت الحرب العالمية الثانية. قبل ذلك الثورة الصناعية ودخول عدد كبير من الصناعات إلى مرحلة الانتاج الكمى Mass Production وبالتالى تسارع الطلب على العديد من السلع. اليوم لا يوجد قصة مماثلة فى العالم تدعو لتزايد الطلب بطريقة مطردة. حتى تحول العديد من الاقتصادات حول العالم إلى الطاقة البديلة لا ترقى لهذه المرحلة. للأمانة، فإن الحالة الوحيدة التى رأينا فيها تضخما بدون تسارع الطلب كان فى السبعينيات حيث اندمجت عدة عوامل منها سوء قرارات البنك الفيدرالى الأمريكى لعدد من السنوات فى أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات مصحوبا بقرار حظر تصدير البترول من دول الخليج العربى دعما لموقف مصر وسوريا فى الحرب، أدخل الولايات المتحدة فى دوامة فكر تضخمى كان جزئيا نفسيا. وجدت الولايات المتحدة نفسها فى موقف صعب الرجوع منه حتى جاء بول فولكر المحافظ التاريخى للبنك الفيدرالى الأمريكى الذى كسر شوكة التضخم برفع معدلات الفائدة.
فى الأسبوع القادم نختتم حديثنا بالأسباب العلمية لتوقع انكسار شوكة التضخم وتوصياتنا لملف الإدارة الاقتصادية.