قمر وياسمين.. ليسا اسمين حقيقيين ولكنهما لفتاتين طالما نلتقى بهما فى العديد من المدن العربية بمراكز أو حتى ملاهى ومقاهٍ.. تختلف الأماكن والفتيات ولكن تبقى الأسماء التى أحببت أن أطلقها عليهما.. هن كالبدر فى أول إطلالته وفى عيونهن حنين إلى مطر الياسمين.
هن عيون تنطق بكلمات لا يعرفها اللسان أو ربما هى الانفصال الدائم بين ما تقوله عيونهن وما تقوله ألسنتهن.. العيون أكثر صدقا وحزنا وعتبا أم الألسن، فقد تدربت وهى باختصار ــ كما قال لى أحد الأصدقاء المتابعين لأحوال كل الأقمار والياسمين فى كل جهات الكون ــ ليست عذارء.. فقد فقدت تعابيرها الأولى منذ أن قام آخرون كبار بإدخالها فى عوالم لم تتخيلها فى أكثر لحظاتها تعاسة.. هم من أجبروها على أن تترك مقعد الدراسة إلى مقعد آخر فى ليل المدن المظلمة! هم من سرقوا طفولتها وصباها وشبابها حتى أصبحت كهلة فى عمر الزهرة الأولى.. كهلة وهى لم تتجاوز الحادية عشرة من عمرها!
فى غرف بمراكز تعرت من إنسانيتها فى الكثير من الأحيان.. جدران تنخرها الرطوبة، وأرضيات متهالكة بفعل الزمن وقلة العناية.. هناك بمثل هذه المراكز فى شوارع وأزقة وحوارى عربية كثيرة تلتقى بهن أيضا.. فتيات فى أعمار لا تقل عن الأحد عشر ولا تزيد على السادسة عشرة وكلهن يحملن نفس الإجابات فيما عيونهن ترسم تفاصيل قصص وحكايات أخرى.. كلما أكثرنا من الكلام لا الأسئلة وأدخلنهن فى دهاليز الحديث.. هناك ربما فقط ربما يفتحن بعض أبواب قلوبهن الموصدة.. تبدأ قمر بكلمات حادة تروى دربها الطويل مقارنة بسنين عمرها.. تختصر بعض الحقائق وتطيل فى التفاصيل.. تماطل بعض الشىء وتنكشف لأن البراءة تبقى أكثر نقاء وقوة من الخبرة والتجربة رغم صعوبة وتعقيد الأخيرة.. هى التى لم تكمل بعد سنواتها الاثنتى عشرة تنقلنا إلى عالم الظلام فى مدن النور والتنوير! تسقط بين الكلمة والأخرى أسماء لرجال جاءوا من «مدن الملح» بحثا عن متعة سريعة ولكنها «آمنة» مع فتيات بكر.. تختلف الحكايات لكل قمر وياسمين واحدة رحل بها والدها أو ربما والدتها من مدن الحرب والنزاع إلى عواصم الأضواء الساطعة! وأخرى انتقلت من أتربة بيوت الطين لفقراء الريف إلى ثراء المدن المكتظة برجال يحاربون السنين وعلاماتها عبر صبغات الشعر السوداء وبعض من المساحيق البالية وإعادة الشيخ إلى صباه مع صبية هى فى الكثير من الأحيان من عمر بناته أو حفيداته!
بعضهم يفضلها حلال ولهذه تجارها وسماسرتها وآخرون يجدون من يبرر لهم فعل اغتصاب الزمن من زهرة فى تفتحها الأول.. أما الوسطاء فلديهم من القدرة على تجميل القبيح وتحليل المحرم.. هنا إغراء بأموال طائلة وحياة رغيدة للفتاة وأهلها.. وهناك غواية المكان الذى سينقل صاحبة الصوت الرخيم والقوام الرشيق إلى مصاف نجمات الغناء والفن! الوسطاء حواة يبيعون الأحلام فى علب الوهم.. يسوقونها مرورا بفقر الضحية وضعفها وقلة خبرتها والأهم طمع المسئولين عنها، أولئك الذين منحهم المجتمع صفة أولياء الأمر.. آباء وأمهات فتحوا بطون بيوتهم ليتسلل إليها القادم الحامل محفظة تنحشر فيها الأوراق المتراصة تغرى العين وترخص من قيمة الإنسان الذى هو قمر أو حتى ياسمين!
عندما تنتهى الحكاية تبدأ الحقيقة فى التجلى كما الشمس وهى تتلصص على ظلام الليل فى ساعات الصباح الأولى.. تستفيض ياسمين بمجرد أن تستجمع بعض الشجاعة من كل تلك الفتيات الجالسات بحواس كلها سقطت فى عيونهن التى تبحث فى ثنايا الحديث عن شىء من الطمأنينة أو بعض من الأمن والأمان المفقودين حتى عند الأكثر قربا من حبل الوريد.. كثيرات منهن لم تعرفن حيوات أخرى.. هن ثروة الأسرة وزادها.. رغيفها وخاتم الذهب الأصفر بأصبعها.. تولد لتكون مسئولة عن أسرة وكأنها تدفع ثمن إحضارها إلى هذا العالم.. وما ان تفطم من ثدى أمها يبدأون فى إعدادها لتلك المرحلة المقبلة لتتحول إلى صندوق نقود الأسرة.. يربونها ويكبرونها.. يطعمونها ما يملكون حتى تطعم حياتها كلها لهم ولغيرهم من سماسرة الأقمار المضيئة.
عندما تفتح صندوق العجائب هذا وتنبش قصصا لأقمار كثيرة افترشت ليل المدن الصاخبة.. عندما تفعل ذلك تأتيك التهم الواهية «كيف تنشرون غسيلنا القذر؟» أليس الغسيل القذر خلق لكى ينشر بعد غسله وقبله؟! أو أنها حالات نادرة هناك فقط عشر أو أقل.. ولكنهم لا يعرفون أن قمر وياسمين ليستا أرقاما تضاف إلى تعداداتهم.. هن عيون وقلوب تفيض حنينا للحنين.