آثار فيروس «كورونا» بدأت تظهر فى السياسة، فقد أبدى رئيس الوزراء البريطانى بوريس جونسون، الذى يدير العمل الحكومى من بيته أثناء فترة العزل الصحى عقب إصابته بفيروس كورونا، إعجابه بالمتطوعين الذين لبوا نداءه للمساعدة فى الجهود الصحية لمواجهة الفيروس القاتل، وعاد بذاكرته للوراء، منتقدا نظرية رئيسة الوزراء مارجريت تاتشر «لا يوجد شىء مثل هذا كمجتمع»، وهو ما رآه معارضوها فى حينه تعبيرا عن رفضها التوسع فى دولة الرفاهية، التى تعنى بالصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية للمواطنين، فقد اعتبر جونسون أن سبعمائة وخمسين ألف متطوع يؤكد أن نظرة تاتشر للمجتمع كانت خاطئة، اللافت أن بوريس جونسون، الذى يجلس على مقعد تاتشر الآن، ويقود حزب المحافظين مثلها، أشاد بمقولتها عام 2009، وأشار إلى أنها أرادت أن تمزق التوافق الذى أعقب الحرب العالمية الثانية بأن حل أى مشكلة يكمن دائما فى التوسع فى دور الدولة، ذكره بذلك أحد رجال الحرس القديم فى حكومة تاتشر، نورمان تيبت الذى قال له لو واجهت مارجريت تاتشر هذه المشكلة لاستدعت المتطوعين، بوصفهم أفرادا، وليس تغليبا للنظرة الاشتراكية الجماعية.
الظاهر أن جونسون يواجه موقفا صعبا وهو تمدد الإنفاق العام بعد شهور من توليه رئاسة الوزراء فى أعقاب انتصار انتخابى ساحق، فقد خسر غريمه فى الانتخابات جيرمى كوربين، زعيم حزب العمال، لأنه طالب بالمزيد من الإنفاق العام من جانب الدولة، الآن يتبع جونسون فى مواجهة فيروس كورونا، والبطالة التى ترتبت عليه، والأزمات التى تلوح فى الأفق، الأجندة التى طالب بها كوربين، وخسر الانتخابات بسببها، وليس من آثار مرض «كورونا» الذى يعانى منه استعادة مقولة تاتشر بالنقد، هو يعنى ذلك بالتأكيد، لأنه يحاول أن يقدم تفسيرا ودلالات لتوجه مغاير لسياساته الانتخابية سوف يستمر معه لفترة قادمة.
يعيد هذا الجدل النقاش حول «الدولة»، حدودها وماهيتها، وهل هى الدولة المنكمشة أم المتمددة، فى الثمانينيات من القرن العشرين واجهت الدولة هجوما عاصفا من المؤسسات النقدية العالمية، باعتبارها عقبة أمام التنمية الاقتصادية، مترهلة بيروقراطيا، وفاسدة إداريا، وكان البديل دائما هو تسليم ريادة الاقتصاد للقطاع الخاص، سواء عن طريق خصخصة المشروعات العامة أو غل يد الدولة عن تقديم مزيد من الدعم لمواطنيها، بعد أقل من عقدين، تبين أن غياب أو ضعف الدولة لا يصب فى مصلحة القطاع الخاص أو حرية الأفراد، لكن يشجع الجريمة، والإرهاب، والفوضى، والتهميش والفقر، وهو ما يعنى أن الدولة ينبغى أن تكون قائمة، وقوية، لكن شتان بين اتجاهين، الأول يرى قوة الدولة فى مزيد من رعايتها للمجتمع، وتطوير نوعية الحياة، ومواجهة الفقر والتهميش، والثانى يدرك قوة الدولة باعتبارها ضبطا، وقمعا، وقهرا للمواطنين، يثبت التاريخ أن قوة الدولة تكمن فى علاقتها الإيجابية بمواطنيها، فى تطبيق القانون، ومواجهة الفقر، والحفاظ على البيئة، ودعم التنوع الثقافى، والآن التصدى للأوبئة، ولم يعد الكلام الأيديولوجى ذا أهمية إلا لطلاب العلوم السياسية، أما الواقع فهو مختلف، فإن حجم التحديات التى يواجهها العالم تتطلب وجود دولة قوية، فاعلة، واتساعا فى الإنفاق العام، أيا كانت الحكومة يسارية أو يمينية، ولكن هذا لا يتعارض مع كونها ديمقراطية، تستوعب تنوع مواطنيها، وتدعم المواطنة والحكم القانون.