يقف فى البدء عند منعطف المستمع فقط، يصغى ويعمل عقله بعض الشىء.. يستطيع أن يرفض وربما يناقش أو يحاور أو حتى يصرخ. يبقى هكذا يقاوم كل الفكر السائد بما تعلمه من قراءات أو تجارب وخبرات تراكمت على مر الزمن. يسقط أو يخلع بعض ما حاول مجتمعه، عائلته، قبيلته، مدرسته المتعصبة، أو حتى دولته التسلطية.. يفعل ذلك بصعوبة شديدة فسطوتهم جميعا هى الأقوى خاصة وقد تحالفت معهم كل التقنيات الحديثة واستولوا هم على كل مدخلات المعرفة من تقليدية وحديثه.. استخدموا الفضائيات ليعبروا الحدود ونشروا الفكر الذى يريدون أو ما يساهم فى بقائهم أطول وقت ممكن.. حتى الرمق الأخير أو قبله.
راح هو يقاوم بكل ما ارتأى ثم كان أن عرفوا كيف يزرعون بذرة الخوف التى نبتت على مر السنين أشجارا وغابات من الظلام الدامس فهل ينبت الخوف سوى العتمة؟ الخوف من الآخر.. من هو الآخر.. كل الآخر يتدرج فى البدء كان الصليبيون الذى احتلوا القدس! ثم من خلعوا معاوية.. يسعفهم التاريخ بعض الشىء، ذاك الذى كتبه بعضهم أيضا.. هم الآن يكتبون التاريخ كما يشاءون فالتاريخ يكتبه المنتصرون كثيرا وأحيانا الحالمون!
•••
الخوف هو من يحولك إلى طائفى حتى النخاع، يخلق لك أعداء وهميين وينهى عقلك أو عقلها حتى قبل أن تغطيه بقطعة من القماش تتصور أن الله ينتظر منها ذلك فقط! يخلق الازدواجية الغبية ولكن ألم يلغوا هم عقولهم وبذلك ففى رأيهم كل السائرون الحائرون هم بلا عقول.. يرددون فى المنابر أو تلك المحافل التى تسمى برلمانات منتخبة!!! تسميات جميلة للدين الآخر أو الطائفة الأخرى.. الطائفة الكريمة والدين السمح.. يقهقه الساكت هناك.. الجالس فى أطراف البشر يقع على ظهره من القهقهة أى كريمة أو سمحة وأنتم تكيلون الشتائم لها طوال اليوم؟ يتقنون تخبئة عجزهم وتعصبهم تحت إطار الخوف أو ربما هو الخوف الذى يخرج أسوأ ما فينا جميعا نساء ورجال.. الخوف هو عدونا الأول والأخير منذ بدء التاريخ حتى فصل الربيع الأخير!
•••
وهم منهكون فى خوفهم وترقبهم وتربصهم للآخر وشهر سيوفهم فى وجهه، يقوم الآخرون بالصفقات والسرقات المعلنة ويعشش الفساد فى أدراج المتخمين، الساخرين من كل هذا الكم من البشر.. ملايين منهم السائرون الحائرون الخائفون.. يعبثون بمستقبل الأوطان التى كانت أصلا عبثا لهم.. غيروا الأقنعة أحيانا وأحضروا بعض الوجوه النضرة.. لا يهم.. لا يهم «أضيفوا بعضا من الشباب وربما النساء أيضا».. لم لا؟ كل هذه هى العقول الواعدة ثم ارموا فى طريقهم كل مظاهر الإغراء الفاحش من مال وغيره! لا حدود للخيال سوى السماء.. يتفقون جميعا على أمر واحد فقط وهو ألا يتغير مجرى الأمور فالاقتصاد هو نفسه ليتفحش السوق ولينمو العقار بدلا عن المصنع والمزرعة.. ولنصبح أمة تأكل مما لا تزرع وتلبس مما لا تصنع كما قال جبران منذ زمن.. ويل لنا إذن.. ويل لنا جميعا..
•••
انتشر فيروس الخوف حتى تغلغل للجامعات والعقول.. وانقسم القوم ــ كل القوم ــ إلى حلقات صغيرة وبدأت تصغر فتصغر إلا هم ـ الفاسدون الناهبون القابضون على الزناد، اتسعت دائرتهم وتوحدوا جميعا وراحوا يرددون «نحن معا فى الضراء والسراء» نحن الدين والدولة والقبيلة والعائلة و...و...و... كل الوطن نحن وسنبقى كذلك.. قهقه ذاك الجالس فى الهامش.. راح يردد أنهم يحرثون البحر أو ربما يدفنونه وأنتم منهكون فى الاقتتال على من يصلى وكيف.. اقتسموا الوطن ككعكة لذيذة.. ذاك الوطن بكل تنوعاته وتلاوينه أصبح لهم فقط.. أتقنوا نشر الخوف بين الجميع حتى أصبح هو الهدف الأول والأوحد.. ردد بعض المثقفين والمفكرين الجهابذة «تريدون ديمقراطية أو الأمن؟ الأمن أو قطعة الخبز؟» هتفت الحشود الكثيرة كقطيع متماسك «الأمن طبعا، الأمن أولا».
أسقط الخوف كل الأمل.. أوقف المسيرة وبنى سدا كبيرا فى وجه تلك الموجة الجامحة والنسمة المنعشة.. عاد القطيع إلى السير والجرى بحثا عن لقمة العيش.. لا تزال هى أولا ومن بعدها حريتى رغم أن دون الحرية لا أمن ولا شىء سوى الخوف الأزلى! حتى آخر بيت وآخر حجر.