هناك قدر كبير من التبسيط فى تعامل الشباب الثائر والنخب الفكرية مع مسار ثورة 25 يناير. إذ إن مخاض هذه الثورة هو مخاض طويل وملىء بالصراعات حتى يتم إنجاز مهامها فى الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية، فهو فى نهاية المطاف صراع بين القوى الجديدة (الثائرة والمنتفضة) والقوى القديمة، أو بعبارة أخرى بين القوى الحية للأمة والقوى المتخلفة والفاسدة التى كيفت طويلا مع قيم الاستبداد والمحسوبية وانعدام الديمقراطية والمحاسبة.
ولهذا يجب أن تكون نظرتنا واقعية وليست مثالية لهذا الصراع القادم الذى تجاوز نظام مبارك لأن هذا الصراع نتاج فترة امتدت أكثر من أربعين عاما انعدمت فيها الديمقراطية واحترام الكفاءة وقيم النزاهة، وطردت «القيم الرديئة» القيم الجيدة والأصلية فى هذا الوطن.
وهذا النسيج الصراعى للأشياء سوف نشهده خلال السنوات المقبلة حتى يتم إنجاز مهام الثورة واستحقاقاتها مرورا بالانتخابات التشريعية والرئاسية. وسوف نشهد عند كل منعطف فى مسيرة التغيير والتجديد نماذج لهذا الصراع تحت مسميات مختلفة وأقاويل حق يراد بها باطل، ولعل ما نشهده هذه الأيام من صراع وتراشق حول قانون السلطة القضائية وحول حل اتحاد العمال الرسمى نموذجا واضحا لمثل هذه الصراعات التى تتجاوز حقبة مبارك وتمتد جذورها فى بنية النظام والتى تكونت حولها مصالح ضالعة وركائز راسخة.
فعندما سمحت الظروف بأن يتولى قاض فاضل هو المستشار محمد حسام الغريانى رئاسة محكمة النقض ومجلس القضاء الأعلى وبادر بتشكيل لجنة لتعديل قانون السلطة القضائية الذى طال انتظاره برئاسة مستشار مرموق من شيوخ القضاة الذين دافعوا عن الحقوق الديمقراطية للشعب واستقلال القضاء فى ظل نظام مبارك هو المستشار أحمد مكى، قامت موجة من الاحتجاجات فى بعض نوادى القضاة الذين ينتمون للتيار المعاكس وحاولوا إفشال مهمة هذه اللجنة بجمعية عمومية بالإسكندرية بحجة انفراد المستشار الغريانى بتعيين هذه اللجنة، دون الإفصاح عن السبب الحقيقى لهذا الموقف الذى كان دافعه الخوف من وضع شروط وقواعد لإنهاء الفساد وعدم خضوع السلطة القضائية لضغوط السلطة التنفيذية وفقا لمبدأ فصل السلطات، وقد فشلت الجمعية العمومية فى إسقاط لجنة مكى، ومازال الصراع مشتعلا على الرغم من أن باب لجنة مكى «مفتوح» لجميع الاقتراحات من جانب القضاة فى مجال الاعتراض على بعض التعديلات المقترحة مثل: تحدى مدة الإعارة الخارجية وقصرها على ست سنوات، إذ تلقى المستشار مكى عدة خطابات تطالب بضرورة الرجوع عن هذا النص، كما رأى عدد كبير من القضاة أن هذا النص سيكون مجحفا إذا تم ضمه لقانون السلطة القضائية لأنه يمنع عن القضاة حقا مكفولا وهو أن كفاءتهم وتميزهم هما اللذان يجعلان الدول تطلبهم دون غيرهم. وهكذا تكون المعالجة الديمقراطية (البعيدة عن الهوى) هى الطريق للتعبير عن آراء القضاة عن مطالبهم وحل أى خلافات حول مشروع استقلال السلطة القضائية بعيدا عن المهاترات ما دامت لا تؤدى إلى تقويض استقلال السلطة القضائية.
وإذا انتقلنا إلى الصراع الناشب حول اتحاد العمال، فقد أصدر وزير القوى العاملة فى حكومة الدكتور عصام شرف قرارا بحل مجلس اتحاد العمال الرسمى برئاسة حسين مجاور فى الرابع من أغسطس 2011، نتيجة ما شابه من تزوير فى الانتخابات والمطالبات الجماهيرية بحله، بالإضافة إلى مساندة هذا الاتحاد الرسمى لنظام مبارك فى أثناء الثورة وتورط بعض قياداته فى معركة الجمل على عكس الموقف المشرف الذى قام به الاتحاد التونسى للشغل الذى ساهم بشكل فعال فى إسقاط نظام زين العابدين بن على.
وعلى الرغم من أن أعضاء اتحاد العمال الرسمى كانوا نوابا فى مجلس الشعب والمجالس المحلية، فإنهم قاموا بالتزام الصمت عن تجاوزات النظام السابق فى عدد من القضايا وعلى رأسها خصخصة شركات القطاع العام.
ولعل هذا نتاج لتراث طويل من الصراع بين النقابات الصفراء الملحقة بالسلطة والنقابات الحرة التى تدافع عن الحقوق العمالية. ولكن قرار حل الاتحاد، على الرغم من أهميته، خطوة لا تكتمل إلا بإصدار قانون الحريات النقابية حتى يستطيع العمال المصريون بناء نقاباتهم بإرادتهم الحرة.
وسوف يتكرر هذا الوضع فى اختيار وانتخاب القيادات الجامعية الجديدة، حيث يدور صراع بين القيادات المنتمية للنظام القديم التى كان يتم تعيينها نتيجة ارتباطها بالحزب الوطنى وبمباركة جهاز أمن الدولة وبين القيادات الجديدة التى تعبر عن روح التغيير والثورة فى الجامعات المصرية، إذ سوف تكون هناك 138 عملية انتخابية عقب عيد الفطر مباشرة سوف يتم فيها الصراع بين القديم والجديد، حيث ينوى الكثير من المرتبطين بالنظام السابق خوض هذه الانتخابات وكأن شيئا لم يحدث. كما أن هناك 6 رؤساء جامعات يرفضون تقديم الاستقالة لفتح الطريق نحو تعيين قيادات جامعية جديدة تتمشى مع روح ثورة 25 يناير.
وكذلك سوف يدور صراع عنيف حول مطلب تحقيق العدالة الاجتماعية، الذى رفعته شعارات ثورة 25 يناير، وخصوصا فيما يتعلق بالمواءمة بين استمرار الاقتصاد المصرى كاقتصاد سوق وتحقيق درجات من العدالة الاجتماعية. إذ إن هناك أكثر من مفهوم لاقتصاد السوق، فهناك نموذج «السوق الاجتماعية» كما طبق فى ألمانيا.
وهناك تجربة السوق المحكومة (Governed market) كما طبق فى التجربة الآسيوية حيث يكون هناك ضرورة للتوجيه الاقتصادى على المستوى المركزى مع الاحتفاظ بآليات السوق. وهناك أيضا التجربة البرازيلية، فى ظل رئاسة لولا حيث تم الاحتفاظ باقتصاد السوق مع إدماج البعد الاجتماعى وتوفير السلع العامة للفقراء.
ويرتبط ذلك بإعادة النظر فى النظام الضريبى وأساليب تعبئة المدخرات، من ناحية، وإعادة هيكلة الإنفاق العام ولاسيما الإنفاق الاجتماعى، من ناحية أخرى.
ومن أجل الحفاظ على سلامة المسار الانتقالى للثورة، يجب عدم تغليب التناقضات الثانوية على التناقضات الرئيسية، كما يحدث الآن فى بعض وسائل الإعلام المكتوبة والمرئية. إذ إن التغير الجذرى فى المؤسسات وأسلوب الحكم لا يتم بين يوم وليلة بل يستغرق وقتا طويلا. ويجب أن يظل شعار «الجيش والشعب إيد واحدة» هو الشعار المنقذ من كل الانحرافات والتعرجات التى تعترض مسيرة الثورة.