مصطفى الفقي يكتب: لبنان... المفترى عليه - بوابة الشروق
الخميس 4 يوليه 2024 9:20 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصطفى الفقي يكتب: لبنان... المفترى عليه

مصطفى الفقي
مصطفى الفقي

نشر في: الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 5:55 م | آخر تحديث: الثلاثاء 2 يوليه 2024 - 5:59 م

يجب أن نعترف أن جزءا من أزمته يتمثل فى بعض الشرائح السياسية النافذة وصاحبة القرار على أرضه.

الطائفية داء لعين وفد على لبنان كأحد الرواسب من الظاهرة الاستعمارية الغربية حين تبنى الفرنسيون القطاع المارونى واهتم البريطانيون بالمكون الدرزى وبقيت للعرب جموع أتباع المذهب السنى، بينما اختطفت إيران فى ظل الصراع العربى ــ الإسرائيلى العنصر الشيعى المتمركز فى الجنوب الذى أحال قضية المواجهة مع الدولة العبرية إلى مواجهة حادة تعصف بأمان المواطن اللبنانى وأمن دولته.

لا تزيد المسافة الزمنية بين مشهدين لأكثر من 80 عاما، ومع ذلك تزدحم فيها الخواطر وتتناقض المواقف ويبدو الأمر كما لو كنا أمام رواية فى مسرح العبث! فبين لبنان أحمد شوقى وخليل مطران وغيرهما ممن حفلت بهم صحف القرن الماضى وبين لبنان الذى نتحدث عنه الآن يتملكنا شعور عميق بأن الدنيا قد تغيرت كثيرا وأن الأحوال قد تبدلت تماما، فأين نحن من هذه الأسماء اللامعة التى استكملت وجودها بفيروز ووديع الصافى وغيرهما من أساطين الغناء العربى حين كان مصيف أم كلثوم المصرية فى جبل لبنان، وكان عبدالوهاب رائد مدرسة الطرب الحديث يقضى عطلته الصيفية على أرض ذلك البلد الجميل، وكان هناك ابن الزعامة الدرزية فريد الأطرش والفنانة صباح وغيرهما من الروائع التى صدح بها ذلك العصر الذى مضى، ويبدو أنه لن يعود.

إن المسافة زمنيا لا تبدو طويلة، لكن لبنان المظلوم والمفترى عليه قد تبدلت أحواله وتوارت ميزاته واختفت سماته ليظهر بدلا عنها الدمار والخراب والطائرات المسيرة والصواريخ الموجهة، إضافة إلى التعقيد السياسى وبقايا التعصب الدينى ومسحة من سيطرة أهل النفوذ على بسطاء الناس، إن لبنان فيه ما يكفيه بدءا من ذلك التوتر الشديد فى حدود الجنوب مع إسرائيل مرورا بالأزمة الاقتصادية الطاحنة وصولا إلى السياحة المجمدة، فلبنان الذى كان يجذب البشر من كل أطراف العالم والمنطقة العربية أصبح الآن موضع حذر ومكان تجنب على الرغم من جمال أرضه وروعة جباله وتضاريسه ووديانه، فالذى جرى للبنان فى السنوات الأخيرة قد أطاح بكل مظاهر الجمال فيها واستبدلها اليوم باستعدادات لحرب قادمة أو مواجهة محتملة بين «حزب الله» وإسرائيل. كأنما كتب الله على الشعب اللبنانى أن يدفع الفاتورة عشرات المرات وأن تتحول كل حرب فيه بالوكالة إلى حرب على الشعب اللبنانى وأمنه واستقراره ومستقبل أجياله القادمة، فقد تحول الصراع فى الشرق الأوسط إلى ساحات حرب محتملة على الأراضى العربية فلسطينية ولبنانية وربما سورية وعراقية أيضا! فضلا عما يجرى فى جنوب البحر الأحمر وحالة الاستهداف المتبادل بين القوى المختلفة هناك، دعونا نعترف بأن هناك من يحاول أن يجعل العرب اليوم كالأيتام على مائدة اللئام فيسلب منهم كثيرا من مقوماتهم التاريخية وخصائصهم البشرية، فإرادة الحياة لدى اللبنانى لا نكاد نجد لها نظيرا، فهى لا تتوقف مهما كانت الظروف ومهما تعددت الأسباب.

وأنا أكتب هذه السطور اليوم لافتا النظر إلى مأساة ذلك الشعب العربى الصغير حجما الكبير تأثيرا والذى كان يمثل واحة للأمان وموئلا للاستقرار ورئة تتنفس بها المنطقة الهواء الوافد من (شجيرات الأرز) التى تحمل شعار ذلك الوطن بوتقة التعددية وسبيكة انصهار التوجهات المختلفة سياسيا وحضاريا، إنه لبنان بيت الدين وفخر الدين المعنى ولبنان بشير الشهابى، بل والشهابية بكل أديانها ومواقع وجودها، إنه لبنان الشعراء والأدباء واحة الطرب ومحط الأبصار، لذلك كان طبيعيا أن تستهدفه إسرائيل دائما وأن ترى فيه منافسا حضاريا قويا على حدودها لذلك تعددت هجماتها عليه وغزواتها فيه ولم تتوقف أبدا عن التحرش بحدوده والعدوان على أراضيه، بخاصة الجنوب، وللأسف فإن القوى المختلفة للبنان لا تجمع على مصلحة مشتركة ولا طريق واحد، إذ يكفى أن نقول إن منصب رئيس الجمهورية شاغر لأسباب تتصل بعدم القدرة على الإجماع حول مصلحة ذلك البلد الذى يعتز به العرب وتتيه به دول الشرق الأوسط وتتطلع نحوه شواطئ المتوسط، إننى أسجل هنا الاعتبارات التالية:

أولا: إن لبنان الذى كان مصدر إشعاع للمنطقة لم يتوقف عطاؤه، فما أكثر العثرات التى واجهها، لكنه انتصر عليها وتجاوزها وخرج من دائرتها، فهو شعب خلاق قادر على تجسيد إرادة الحياة فى أوضح معانيها، وهو شعب تبنى الديمقراطية طريقا حتى ولو بالصورة دون المضمون لأن هناك ظروفا فرضت عليه وجعلته مكبلا لا يقوى على الانطلاق الذى تعودناه منه وعرفناه به.

ثانيا: إن الطائفية داء لعين وفد على لبنان كأحد الرواسب من الظاهرة الاستعمارية الغربية حين تبنى الفرنسيون القطاع المارونى واهتم البريطانيون بالمكون الدرزى وبقيت للعرب جموع أتباع المذهب السنى، بينما اختطفت إيران فى ظل الصراع العربى ــ الإسرائيلى العنصر الشيعى المتمركز فى الجنوب الذى أحال قضية المواجهة مع الدولة العبرية إلى مواجهة حادة تعصف بأمان المواطن اللبنانى وأمن دولته، وما كنت أود أن يكون الصراع مركزا حول طائفة دينية لشعب لم يكن فى يوم من الأيام حبيس عقيدة واحدة أو قالب فكرى محدد، فهو شعب التعددية وقبول الآخر وسماحة الاختلاف، إن ما يدور حول لبنان حاليا هو نوع من القهر المتعمد لذلك الشعب وترويع أبنائه ودق إسفين بين طوائفه، فالقضية الفلسطينية قضية سياسية وليست مسألة دينية لذلك يشترك اللبنانيون جميعا مثلما هو الأمر بالنسبة إلى العرب فى أخطار السياسات الإسرائيلية الحالية وتوجهات نتنياهو التدميرية ورغبته فى العصف بروح لبنان التقليدية ومكانته المتميزة.

ثالثا: إن لبنان ميخائيل نعيمة وسعيد عقل، بل ولبنان جبران خليل جبران سيظل دائما مصدرا للقوى الناعمة التى نعتز بها ونفاخر فى كل مناطق العالم العربى لأننا ندرك أن تلك القوى هى ثروة بغير حدود، فهى تحوى التعليم والثقافة والإعلام والمؤسسات الدينية ومراكز الأبحاث وأروقة الفكر، ولن يغيب عنا المسرح اللبنانى ولا سينما الشام الكبير التى انطلقت من القطر اللبنانى الواعد، وأنا باعتبارى مصرى الجنسية عربى الهوى أقرر صراحة أن المزاج العربى يلتف فى معظمه حول مزيج من النماذج الفنية المصرية واللبنانية والخليجية، إذ برزت الجزيرة العربية فى السنوات الأخيرة كمصدر إشعاع جديد يضىء الطريق أمام الأجيال الصاعدة وتجاوبت معهم أصداء من دول المغرب العربى والعمق الأفريقى إلى جانب النتاج الثرى لعرب المشرق، فأصبح الإحساس المشترك بالأخطار لا يقف عند حدود الأحداث السياسية الراهنة، ولكنه يتجاوز ذلك إلى كل معانى النهضة وعوامل الانطلاق وأساليب المضى نحو حياة أكثر إشراقا وتألقا.

رابعا: قلبى مع لبنان وعقلى معه أيضا أردد دوما مع الصوت الملائكى لفيروز قصيدة شوقى الخالدة «يا جارة الوادى» وأشد على أيدى ذلك الشعب الشقيق الذى لا يعرف اليأس ولا يقبل الهوان، داعيا إلى وحدته الوطنية وتماسكه الشعبى، مؤمنا بقدرته على تحطيم المؤامرات والتصدى للتحالفات وصياغة وجه آخر للحياة مهما أحاطت به الصعاب ومهما تكالبت عليه الخطوب.

خامسا: يجب أن نعترف أن جزءا من أزمة لبنان ومحنته يتمثل فى بعض الشرائح السياسية النافذة وصاحبة القرار على أرضه، وقد امتزجت الحياة السياسية بالأبعاد الطائفية والانتماءات الخارجية مما أتاح لأعداء لبنان أن يستغلوا ذلك التمزق التاريخى فى توسيع الهوة وتضخيم الصراع وتصوير الشعب اللبنانى وكأنما هو مجموعة شعوب صغيرة فى بوتقة واحدة، ولقد آن الأوان لكى تجدد الحياة السياسية فى لبنان شبابها وتتوقف عن ظاهرة توريث مراكز القوى لأن لبنان دولة عصرية لا تقوم حاليا على العشائرية أو المفاهيم القبلية القديمة ولا حتى المعتقدات الدينية، فتلك أمور يخلعها المواطن أمام صندوق الانتخاب ليختار الأفضل لبلده بغض النظر عن طائفته الدينية أو انتمائه الحزبى أو معتقداته السياسية، إن لبنان قد يغفو، ولكنه لا ينام دائما، قد يتعثر، ولكنه لا يسقط من موقعه التاريخى والجغرافى الفريدين أبدا. إن لبنان العربى سيظل واجهة لعروبته قبل أن يكون واجهة لطائفة بذاتها أو امتدادا لقوى خارجية على أرضه، فلبنان هو لبنان الإرادة والكرامة معا.

هذا هو لبنان المفترى عليه فى ظل ظروف صعبة وأوضاع معقدة وعالم يتغير كل يوم، سلام على أرضه وشعبه فى تلك الأحوال الملبدة بغيوم عاتية.

نقلا عن «إندبندنت عربية»



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك