مصطفى الفقي يكتب: الحكومات المعاصرة بين اليمين واليسار - بوابة الشروق
الجمعة 20 سبتمبر 2024 6:49 م القاهرة القاهرة 24°

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مصطفى الفقي يكتب: الحكومات المعاصرة بين اليمين واليسار


نشر في: الإثنين 15 يوليه 2024 - 6:44 م | آخر تحديث: الإثنين 15 يوليه 2024 - 6:44 م

تجتاح العالم المعاصر موجة ارتداد نحو اليمين أحيانًا، إذ أسفرت انتخابات برلمانية عدة فى أوروبا الديمقراطية عن عودة اليمين لمواقع السلطة بصورة ملحوظة، باستثناء الحالتين البريطانية والفرنسية، فجاء التصويت فى الأولى منها عقابيًا لحزب المحافظين قبل أن يكون حماسة لعودة حزب العمال، أما فى الحالة الفرنسية فكان تعبيرًا عن تردى الأوضاع وانعدام التوازن فى سياسة الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون.

كم يشعر الإنسان بالسعادة حين يرى إرادة الشعوب وهى تجد مكانها الطبيعى والطليعى على مسرح الحياة السياسية فى شفافية وشموخ، تمنيت وأنا أتابع التصويت الأخير للانتخابات النيابية فى بريطانيا وفرنسا لو أن بلادنا العربية أصابتها العدوى التى تحملها الرياح الآتية من الشمال لتجد الديمقراطية الصحيحة طريقها إلى الشعوب العربية، خصوصًا مع غمار التحولات الراديكالية التى اجتاحت المنطقة العربية خلال الأعوام الأخيرة وتركت بصمات إيجابية ما زالت فى طريقها إلى نخاع المجتمع تحاول أن تترك آثارها على شكل الحياة السياسية فى بعض هذه الدول.
مما لا شك فيه أن سياسات الدول تتأرجح غالبًا بين تأثيرات التيارات اليسارية فى جانب واليمينية فى جانب آخر، ويبدو أن رصد الأمر يكون سهلًا إذا كانت تلك الدول تتمتع بنظام برلمانى أو شبه برلمانى يتيح لنا التعرف إلى التوجهات العامة لرغبة مواطنيها إيجابًا وسلبًا، ويهمنا هنا أن نرصد بعض الحالات المرتبطة بالتيارات السياسية التى تقوم بدور فى توجيه سياسات الرأى العام وتحريكه نحو أهداف معينة ومن ذلك المشاهد التالية:
أولًا: عشت فى الهند بنهاية سبعينيات ومطلع ثمانينيات القرن الماضى وشهدت إرهاصات التحول فى الحكم من اليسار المتعايش مع النظام الجديد المتجه نحو اليمين المدعوم بسياسة أمريكية حتى تمكنت خلال الأعوام الأخيرة من حكم أنديرا غاندى وابنها راجيف من تكريس التيار المتحمس للنظم الرأسمالية مع الوضع الذى كان قائمًا فى نيودلهى من علاقات وثيقة مع الاتحاد السوفييتى السابق.
وأرسل الرئيس الأمريكى جونسون سفيرًا أمريكيًا إلى الهند خبيرًا فى التنمية الاقتصادية هو جيلبرث إذا لم تخنّى الذاكرة، وكان معنى ذلك أن الولايات المتحدة الأمريكية تحمست للسياسة الهندية نحو النظم الرأسمالية وفقًا للأوضاع الدولية فى تلك الفترة، وبدأ الاتحاد السوفييتى السابق يبتعد قليلًا من نيودلهى، لكنه لم يقطع أبدًا حبال التواصل مع تلك الدولة الآسيوية الكبرى، بخاصة أن الوجود الروسى فى أفغانستان كان محورًا للمواجهة بين نيودلهى وموسكو إلى أن تم حسم الأمر فى هذه المرحلة بما لها وما عليها، وأقصد من هذا النموذج الهندى أن أوضح الصلة بين النظام السياسى للدول وتحالفاتها الخارجية وتوجهاتها السياسية.
ثانيًا: إن المملكة المتحدة التى عصف فيها الرأى العام من خلال صناديق الاقتراع على حكم المحافظين بعد 14 عامًا متصلة هو ذاته الذى عاقب ذلك الحزب على أخطائه المتراكمة التى أدت إلى وجود أربع وزارات متتالية فى العامين الأخيرين، ولم يكُن ذلك إعجابًا بالبرنامج السياسى لحزب العمال بقدر ما كان انتقامًا من فعاليات حزب المحافظين طوال تلك الفترة.
ولا بد من أن أعترف هنا بأن الساحة السياسية فى معظم الدول بما فى ذلك دول أوروبا الغربية أصبحت تفتقر إلى الشخصيات السياسية الكبيرة، فأنا أتذكر مشهدًا مماثلًا قرب نهاية عام 1971 عندما سقط حزب المحافظين برئاسة إدوارد هيث فى الانتخابات التشريعية وحل محله زعيم حزب العمال حينذاك هارولد ويلسون الذى خرج على الجماهير المحتشدة أمام «10 داونينج ستريت» مقر الحكم ليقول إن لدينا مهمة نسعى إلى القيام بها وها نحن نبدأها.
كان ذلك زمن السياسيين الكبار من أمثال هيث وويلسون وجيمس كالاهان، وصولًا إلى من زاحم اسمها فى التاريخ اسم ونستون تشرتشل وأعنى بها السيدة مارجريت تاتشر رائدة الخصخصة فى الاقتصاد البريطانى، وهى التى خرجت منتصرة أيضًا من «حرب الفوكلاند»، واستعادت سيطرة المملكة المتحدة على تلك الجزر البعيدة.
ثالثًا: إن الساحة السياسية الفرنسية تبدو مختلفة، فالنظام الفرنسى يمزج النمطين البرلمانى والرئاسى ويفتح دورًا حاكمًا فى فلسفة الدولة على رغم صلاحيات الرئيس الفرنسى التى لا تبدو قليلة، وعانت فرنسا هى الأخرى شخصيات عادية فى الرئاسة بعد رحيل الزعيم الظافر شارل ديجول والرئيس الاشتراكى الداهية فرانسوا ميتران وحتى جاك شيراك لتفِد إلى الإليزيه شخصيات عادية لم تترك أثرًا يذكر على صفحات السياسية الفرنسية المعاصرة، إلى أن جاء الرئيس الفرنسى الشاب ماكرون بغير تاريخ سياسى طويل بل بنمط مختلف فى الحكم وأسلوب مواجهة الرأى العام والقدرة على مواجهة التحديات، ولعله لم يحسن التوقيت للانتخابات التشريعية التى جاءت على غير ما يتوقعه أو يتطلع إليه بفوز اليسار الفرنسى، وجاء فوز حزب العمال صدى لفوز اليسار البريطانى على الجانب الآخر وسط بحيرة كبيرة من الحكومات الرأسمالية على امتداد الساحة الأوروبية.
رابعًا: إن النظم السياسية العربية تبدو فى مجملها رئاسية ديمقراطية يقوم بعضها على أسس مستقرة من الوراثة الملكية فضلًا عن بعض أنماط حكم الملكية الدستورية، إلا أن الدولة البرلمانية لا تبدو ذات وجود حاسم على الساحة العربية عمومًا، وقد اقترن ذلك بتغييرات كبرى على الساحة الدولية والسياسات الإقليمية، فضلًا عن الصراعات المزمنة، وفى مقدمتها القضية الفلسطينية وملابساتها وتطوراتها، كذلك فإن النمط السياسى العربى السائد يقوم فى معظمه على المشاعر الأخوية أكثر منه اعتمادًا على القواعد القانونية.
والنظم العربية عمومًا لا تخضع لتقسيم اليمين واليسار ولكنها قد تكون أقرب إلى تقسيم آخر بين مشروع قومى وتأثير دينى، وليس هناك شك فى أن الصراع العربي- الإسرائيلى يقف مناوئًا للقوى الأجنبية بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ورغبتها فى السيطرة على مقدرات المنطقة وسياساتها على نحو يخدم مصالح واشنطن مع بروز قوى إقليمية أخرى، أهمها إيران التى ظهرت على السطح منذ فبراير 1979، فأصبحت طهران رقمًا صعبًا فى سياسات الشرق الأوسط وغرب آسيا بل شمال إفريقيا أيضًا، لأن الكل أصبح يدرك أننا مقبلون على حال من الاستقطاب السياسى والسيولة النظرية التى طرأت على نظم الحكم ووجود بعض منها لا يخضع لتوصيف محدد أو تقسيم بذاته.
كما أن نشأة بعض الدول العربية اقترنت بتقاطعات عشائرية وقبائلية تجعل الجانب الإنسانى على المستوى الوطنى أقوى بكثير منه على المستويين القانونى والعصرى، فالدولة العربية نشأت فى ظل ظروف مختلفة من دولة إلى أخرى، وظلت دائمًا قائمة على الترابط البشرى أكثر منه ترابطًا دستوريًا أو قانونيًا.
خامسًا: إن ما أثارته الانتخابات البريطانية والفرنسية فى أسبوع واحد يفتح الباب أمام توقعات ذات تأثير فى المجتمع الدولى بأسره، فإذا كانت الدولة الأمريكية تمثل فى نظرنا أقصى درجات اليمين الرأسمالى، فإن الدول الأوروبية الغربية ليست على المستوى ذاته من التزام قوانين السوق وحرية التجارة والمظاهر الرأسمالية الحديثة كافة، وذلك لا يعنى بالطبع أن الغرب الأوروبى يختلف عن الغرب على الجانب الآخر من الأطلسى، لكن اللافت للأمر أن الخلافات الأمريكية بين الحزبين الحاكمين تدور فى القضايا الفرعية، ولا تمس غالبًا القضايا الخارجية، فالديمقراطيون والجمهوريون يتبارون فى دعم إسرائيل وحمايتها وإمدادها بكل أسباب التعنت السياسى والغطرسة الإقليمية، وذلك يعنى أن التأرجح بين اليمين واليسار ربما ينسحب على الدول الأوروبية وبعض الدول الآسيوية أو اللاتينية، ولكنه لا يبدو ظاهرة واضحة فى غيرها من الدول التى لا تمثل فيها الفوارق بين اليمين واليسار ما يمكن تسميته «تحولًا سياسيًا جذريًا»، ولقد ضربنا أمثلة بالهند الآسيوية وفرنسا وبريطانيا الأوروبيتين ثم النموذج الأمريكى المتفرد، وهو نظام رئاسى بحت يسعى إلى إثبات وجوده من خلال إعلاء قضايا الحريات ومظاهره المختلفة حتى لو جاء الجوهر مخالفًا لذلك كما هو واضح مثلًا فى الموقف الأمريكى من الصراع العربي- الإسرائيلى.



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك