«معا نتعلم».. نموذج للتشارك فى بناء الإنسان - ساره راشد - بوابة الشروق
الأحد 16 مارس 2025 8:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

«معا نتعلم».. نموذج للتشارك فى بناء الإنسان

نشر فى : السبت 1 يوليه 2023 - 8:20 م | آخر تحديث : السبت 1 يوليه 2023 - 8:20 م
بدأت فى إسبانيا، فى عام ٢٠١٨، تجربة «معا نتعلم« وهى تجربة مجتمعية بدعم من بنك «بانكو بيلباو فيزكايا أرجنتاريا BBVA»، من أجل دعم العملية التعليمية ودعم حلقة الوصل بين الآباء والأساتذة المعلمين التربويين باعتبارهم شركاء فى بناء الإنسان.
التجربة عبارة عن حلقات مصورة ملهمة ومحفزة لتنمية قدرات الأطفال وتنمية مهارات القرن الحادى والعشرين لديهم، بالإضافة إلى دعمهم على المستويات الصحية والنفسية والتربوية؛ تم إتاحتها مجانا على منصة خاصة وكذلك على كافة مواقع التواصل الاجتماعى.
لم تقتصر تلك المبادرة على الأطفال فقط، بل اتسعت لتقدم خدمة تهم الأجيال المختلفة عن طريق تقديم حلقات تطرح المشكلات الفكرية والثقافية والاجتماعية المعاصرة من خلال آراء وخبرات وتجارب لمتخصصين فى مجالات مختلفة، بما ينمى من قدرات الطلاب من مختلف الأعمار وينمى كذلك قدرات الآباء ويدربهم على طرق التعامل المختلفة التى يحتاجونها فى تربية أبنائهم.
حققت التجربة فى عامها الأول نجاحا كبيرا بحصول البرامج المصورة على أكثر من ٣٠٠ مليون مشاهدة. وبذلك أكد بنك «بيلباو فيزكايا أرجنتاريا» ــ ثانى أكبر بنك فى إسبانيا ــ على نجاحه فى تقديم نموذج رائد للمسئولية الاجتماعية، والتى هى دور أساسى تقدمه الشركات والمؤسسات للدول التى تعمل بها.
تحولت التجربة الناجحة ــ معا نتعلم ــ التى بدأت بنشر فيديوهين فقط على منصتها أسبوعيا إلى مشروع ــ معا نتعلم ٢٠٣٠ – كمشروع متكامل متعدد البرامج والمحاور؛ تتسع شراكته شيئا فشيئا مع مؤسسات أخرى مثل جريدة «إل باييس» الإسبانية.
فأصبحت بذلك منصته أكبر منصة تعليمية ناطقة باللغة الإسبانية تقدم محتوى تعليميا تدريبيا معرفيا عبر لقاءات لشخصيات عامة بارزة؛ حتى وصل عدد المشتركين على المنصة إلى ٧ ملايين مشترك وعدد مشاهدات لأكثر من 1800 مليون مشاهدة. كما توج هذا النجاح بحصول المنصة على تقدير من الأمم المتحدة لنجاحها فى تحقيق قيم التنمية المستدامة.
• • •
هذه التجربة الاجتماعية التى تقدم على مستوى عال جدا من التميز، اتسع أثرها لتصل إلى دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالإسبانية أيضا، مثل المكسيك والأرجنتين وكولومبيا وبيرو؛ التى تواجه تحديات مثل تلك التى نواجهها فى عالمنا العربى كدول نامية.
نجاح التجربة على هذا النطاق الواسع جاء واضحا فى التعليقات والمشاركات على وسائل التواصل الاجتماعى من مختلف الدول الناطقة بالإسبانية. ولكن لم يكتف القائمون على المبادرة بذلك وإنما عملوا على تطويرها واتساع نطاقها وأكدوا على ذلك بعقد شراكة مع تلفزيون «لاتينا» فى بيرو، آملين فى أن تنطلق المبادرة عبر هذه الشراكة بقوة إلى شاشة التلفزيون المفتوحة، وبالتالى الوصول لأكبر عدد ممكن من الأشخاص.
وفى بيرو، لم تكتف المبادرة بمجرد نقل المحتوى إلى دولة أخرى وإنما سعت إلى توطين المحتوى، وطلبت من الشباب هناك تقديم أفكار عن التحديات التى يواجهونها والهموم التى تشغلهم.
قد تدهشنا قدرة مؤسسة خاصة على تبنى مشروع بهذا الحجم من التنسيق والإبداع والاحتراف والشمول.
يعتبر سر نجاح تلك المؤسسة فى تقديمها التعليم بمنظور مختلف. إنها تقدم رؤية جديدة للتعليم، فهى ليست محاضرات أو دروسا تعليمية وإنما هى موضوعات أساسية تصاحب الإنسان فى رحلة تعلمه باعتبارها رحلة مستمرة طوال الحياة وباعتبار التعلم هو الفرصة الحقيقية لتغيير حياة الناس للأفضل.
رحلة التعلم بما فيها من حيرة وقرارات مختلفة ومواجهة مع الذات وتنمية للقدرات وتشكيل لوعى وإدراك الإنسان لذاته وللمجتمع والبيئة من حوله يحتاج فيها المرء لمن يصحبه فى رحلته الشاقة تلك، ويقدم له الإرشادات التى يحتاج إليها، ويطور معه المهارات التى تعينه على رفع مستوى كفاءته. وما بين المدرسة والبيت والجامعة وكل ما يقدمه المجتمع من دورات وتدريبات تظل هناك مساحات فارغة تدور فيها أسئلة هامة تحتاج للتفكير فيها بشفافية وصدق للتعرف على الذات وإمكانياتها وتطويرها والانفتاح على الجديد فى العالم من حولنا.
إننى أجد أن قيمة المبادرة تكمن فى استطاعة تلك المؤسسة البنكية أن تنشئ برامج تتجلى فيها قيم التعاون والتنسيق بين كافة الأطراف بما يملأ المساحات الفارغة تلك، وبما يملأ كذلك الفجوات بين الأجيال المختلفة وبين الطبقات المختلفة والدرجات العلمية المختلفة.
فنجد أن المفكر والفيلسوف والكاتب المرموق يحلون ضيوفا بكل بساطة وتواضع فى لقاءات مع جمهور يتعرف فيها على فكره وآرائه، التى ربما كتبوا عنها فى كتاب أو هى خلاصة تجربتهم فى الحياة أو حل يكشفون عنه ربما لأول مرة من خلال سؤال أو تعليق من الجمهور.
من خلال اللقاءات يتعلم المشاهد مهارات الحوار والتواصل مع الجمهور والقدرة على الاستماع الجيد، فالذى يحاور الضيف ليس مذيعا أو إعلاميا محترفا وإنما هو شخص عادى قد يكون باحثا أكاديميا أو أما لثلاثة أبناء فى سن المراهقة أو طبيبا متخصصا أو مديرة بمدرسة خاصة. هذا القرب من الناس يعطى فرصة للضيف أن يطرح رؤيته وخلاصة تجربته بصدق فتأتى ملهمة ومحفزة للمشاهد.
قيم التعلم وطرق التفكير وتنمية القدرات العقلية وذاك الشعور بعدم الرضا الذى يخلق الدافع للتغيير والتقدم نحو الأفضل؛ كلها أفكار مطروحة فى المبادرة يستطيع الأفراد من خلالها خلق ما ينفعهم وتلبية احتياجاتهم بالطريقة التى يحبونها.
تساعد وحدة اللغة والهدف فى أن يكون لمحاور وبرامج المبادرة فاعلية وتأثير مضاعف؛ مما يزيد من التقارب بين أفراد المجتمع على مختلف مستوياتهم وبذلك تتكامل الموضوعات والإشكاليات المطروحة على المنصة.
تفاصيل المشروع سواء من الناحية التقنية أو المحتوى التعليمى أو التصوير أو حتى الموسيقى تدل على عالمية محتواه؛ وتتأكد عالميته أيضا من خلال نقل التجارب الواقعية التى تبرهن على أننا نعيش فى عصر نتشارك فيه ذات الهموم ونواجه فيه ذات التحديات شرقا وغربا.
• • •
لا شك أن فى عالمنا العربى مبادرات وتجارب قيمة سواء من المؤسسات التعليمية المختلفة عن طريق ورش عمل أو مؤتمرات وتدريبات أو جهود ذاتية لمحتوى رقمى نافع وراق باللغة العربية على منصات التواصل الاجتماعى؛ إلا أن تلك الجهود المتناثرة لا تحقق الأهداف القصوى منها بما يحقق الطفرة التعليمية المنشودة.
شتان بين ورشة عمل هنا ولقاء مثمر هناك، وبين فريق عمل متكامل من الصحفيين والمتخصصين يقومون بالتنسيق والتعاون بين الأكاديميين والخبراء التربويين فى المدارس والجمهور من الأطفال والمراهقين والشباب من جنسيات مختلفة، ويجمعون كل ما ينتجون على منصة واحدة ذات رؤية وهدف واحد.
وهذا إنما يدل على أن هذا النوع من التعاون بين كافة الأطراف سواء الحكومات والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدنى وحتى المواطنين أنفسهم هو الذى يحقق بالفعل أهداف التنمية المستدامة التى تسعى الدول إليها.
وإذا سلطنا الضوء على مستوى التعليم فى القاهرة مثلا، فنجد أنه يوجد حوالى 3.4 مليون شاب وشابة فى القاهرة فى الفئة العمرية من 10 إلى 29 سنة بينهم شباب أمى أو عاطل أو يحتاج لتدريب ــ وفق ما جاء فى تقرير توطين أهداف التنمية المستدامة لوزارة التخطيط بالشراكة مع صندوق الأمم المتحدة للسكان عن محافظة القاهرة.
بينما تشير المؤشرات الخاصة بهدف التعليم الجيد ــ وهو الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة ــ إلى تقدم المحافظة فى مؤشرى خفض الأمية وتجهيز المدارس لطلاب ذوى الاحتياجات الخاصة. فإن التقرير يوصى بأن المؤشرات التى يجب العمل على زيادة معدلات تنفيذها هى: تعزيز فرص التعلم مدى الحياة للمجتمع.
تجربة «معا نتعلم» نموذج يحتذى به فى هذا الصدد، فهى بالفعل محتوى يعزز من فرص التعلم مدى الحياة للجميع. هى نموذج رائد لبرامج المسئولية الاجتماعية للشركات والمؤسسات بما تقدمه من شراكة كاملة بين الجهات المختلفة للارتقاء بمستوى الإنسان ومعرفته.
يكتمل الإنسان ويرتقى كلما تعلم، تماما مثل الشعوب تتكامل وتنهض بالمعرفة. لذلك فإننا نحتاج لمثل هذا التكاتف للجهود من أجل بناء الإنسان العربى فى هذا العالم الملىء بالتغيرات والتحديات، الذى نأمل أن يصل بنا إلى إنتاج معرفى ثقافى عربى مستقل يحمل مفاهيم التجديد والإبداع.
التعليقات