حين شرعت فى دراسة المسودة الأولى للدستور التى أصدرتها الجمعية التأسيسية فى 14 أكتوبر، لم يغب عن بالى أن تشكيل هذه الجمعية قد هيمنت عليه قاعدة المغالبة من جانب التيار الإسلامى، لا قاعدة المشاركة بين جميع القوى السياسية والفئات الاجتماعية. ولكنى لم أعتبر هذا مسوغاً للرفض المسبق للمسودة أو لرفض الاشتباك مع موادها. فنحن أمام منتج لا شك أنه تطلب جهداً كبيراً فى الدرس والبحث والنقاش داخل الجمعية. كما أنه من الواضح أن هذا المنتج قد تأثر بدرجة أو بأخرى بالجدل الذى دار خارج الجمعية حول ما كان يدور بداخلها من مداولات وما كان يتسرب منها من اقتراحات لكثير من المواد.
وقد قدرت أيضاً أنه سواء استمرت الجمعية الحالية أم تشكلت جمعية جديدة بعد زمن طال أو قصر، فلن يكون فى الوسع تجاهل هذه المسودة على ما فيها من عيوب، تماماً مثلما لم يكن فى وسع الجمعية أن تتجاهل دستور 1971 على عيوبه المعروفة واتخذته نقطة انطلاق لعملها. ومن هنا فإن الجهد الذى يبذل فى دراسة هذه المسودة وتقييمها لن يذهب أدراج الرياح، بل ستكون له فائدة محققة عند مراجعتها من جانب الجمعية الحالية أو أى جمعية تتشكل لاحقاً.
والمنهج الذى اتخذته فى دراسة المسودة هو منهج التعامل المنصف معها، انطلاقاً من معايير ومستهدفات توصلت إليها بجهد بحثى خاص ومن خلال متابعتى للحوار السياسى حول الدستور ومشاركتى فى جانب منه، وذلك بالتعرف على ما هو صائب فى المسودة وبيان كيف يكون أصوب فى بعض الحالات، وبالوقوف على ما هو خائب فيها سعياً لتصحيحه، ثم بتحديد ما غاب عنها وينبغى استكماله. وسوف أختتم تناولى للمسودة بالإشارة للمأزق الحالى بشأن الجمعية التأسيسية وبشأن المسار المضطرب للمرحلة الانتقالية، وذلك باقتراح ما قد يشكل مخرجاً وسبيلاً للتقدم نحو وضع دستور لدولة مدنية وديمقراطية حديثة تكفل العيش المشترك لكل المصريين، ويتيح المجال فى الوقت نفسه لوضع بعض التشريعات التى قد تساعد فى الحد مما يغلب على المشهد الحالى من توتر واحتقان واحتراب.
●●●
وتأكيداً لفكرة الإنصاف سوف أبدأ ببيان ما هو صائب فى المسودة، مع الإشارة إلى إمكانية جعله أصوب فى بعض الحالات. ونظراً لضيق المساحة، فسوف يكون تناولى على سبيل المثال لا الحصر. لقد طالبت وطالب غيرى بالتوسع فى رصد الحقوق وتفصيلها، وقد أدركنا شيئاً غير قليل من ذلك. فالمادة(60) استحدثت النص على الحق فى المسكن الملائم والماء النظيف والغذاء الصحى والكساء. والمادة (54) قررت ان الحق فى الصحة مكفول لكل مواطن من خلال توفير نظام صحى عادل وعالى الجودة، وحظرت الامتناع عن علاج أى شخص لأى سبب فى حالات الطوارئ أو الخطر على الحياة، وأناطت بالدولة الإشراف على جميع المؤسسات الصحية. وهذا حسن، ولكنه سيكون أحسن بالنص على استحداث نظام للتأمين الصحى الاجتماعى الشامل الذى يغطى جميع المواطنين من جميع الأعمار ضد جميع الأمراض، على أن يشارك المواطنون فى إدارته ويخضع للرقابة الشعبية من جانب النقابات الطبية ومنظمات المجتمع المدنى، مع تجريم الامتناع عن تقديم العلاج فى أحوال الطوارئ والخطر.
كما نصت المادة (50) على الحق فى التعليم وعلى مجانيته فى مراحله المختلفة (وهو حق منقوص أو معطل حالياً، وإن كان فى تجديد التأكيد عليه إشارة إلى وجوب السعى لتحقيقه)، وعلى العمل على مد الإلزام لما بعد التعليم الأساسى، مع إشراف الدولة على التعليم بكل أنواعه مع التزام جميع المؤسسات التعليمية بخطة الدولة التعليمية. وكان من المستحسن النص أيضاً على التزام الدولة بإتاحة التعليم الأساسى لمن لم يحصلوا عليه من قبل، واستحداثها آليات محددة لضمان التزام المؤسسات التعليمية ــ لاسيما الخاصة والأهلية منها ــ بخطة الدولة وبما يتقرر من مبادئ وأسس لممارسة وظائفها، واتخاذها التدابير اللازمة للقضاء على التعددية الضارة فى نظم التعليم ومناهجه. كما ألزمت المادة (53) الدولة بوضع خطة شاملة للقضاء على الآمية. وقد أحسنت الجمعية عندما حددت فى هذه المادة أجلاً لإنجاز هذه الخطة، وهو عشر سنوات من تاريخ العمل بالدستور.
وأناطت المادة (57) بالدولة كفالة خدمات التأمين الاجتماعى، وقررت حق كل مواطن غير قادر على إعالة نفسه وأسرته فى الضمان الاجتماعى. وكان من المستحسن التأكيد على أن المواطن المقصود يشمل الرجل والمرأة، والنص أيضاً على حظر تخفيض قيمة المزايا الممنوحة، وعلى المشاركة المنصفة فى التمويل مع تنويع مصادره، وعلى ديمقراطية القرارات المتعلقة بالتأمين الاجتماعى من خلال إدارة رباعية يشارك فيها العمال وأصحاب الأعمال والمتقاعدون والحكومة.
وكفلت المادة (41) حرية الحصول على المعلومات وأناطت بالقانون ليس فقط وضع قواعد الحصول على المعلومات، بل ووضع إجراءات التظلم من رفض إعطائها وتوقيع الجزاء على من يقوم بذلك أيضاً. كما كفلت المادة (40) حرية الإبداع والحفاظ على التراث الثقافى الوطنى بتنوعه. وقررت المادة (215) إنشاء هيئة عليا لحفظ التراث الحضارى والعمرانى والثقافى. واعتبرت المادة (79) حماية البيئة واجبا وطنيا وأن من حق كل مواطن العيش فى بيئة نظيفة، وأن على الدولة اتخاذ التدابير المناسبة لصيانة البيئة وترشيد استخدام الموارد الطبيعية والحفاظ على حقوق الأجيال القادمة فيها.
●●●
وبمقتضى المواد (43) ــ (45) يصبح للمصريين حق إصدار الصحف وحق تنظيم الاجتماعات العامة والتظاهرات السلمية وحق تكوين الجمعيات والأحزاب، وذلك بمجرد الإخطار. كما حظرت المادة (42) الرقابة على ما تنشره وسائل الإعلام كافة. وفيما يتعلق بالحق فى إنشاء النقابات والاتحادات والتعاونيات، فهو مكفول بمقتضى المادة (47)، وإن كانت قد أحالت للقانون تنظيم قيامها على أسس ديمقراطية. وكان من الأصوب النص أيضاً على استقلال هذه المنظمات والجمعيات والأحزاب وحظر تدخل الدولة فى أعمالها.
وحظرت المادة (62) إنشاء المحاكم الاستثنائية. كما حظرت محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية. وثمة خشية من الالتفاف على هذا الحظر فى ضوء ما قررته المادة (200) من اختصاص المحاكم العسكرية بمحاكمة العسكريين و«من فى حكمهم». ومن الواجب تدارك احتمال محاكمة المدنيين عسكرياً بمقتضى هذه المادة. ومن الحسن أيضاً حظر الرق والعمل القسرى وانتهاك حقوق النساء والأطفال وتجارة الجنس، مع تجريم كل ذلك حسب المادة (71). ويستحسن إضافة حظر الاتجار بالبشر تمشياً مع الاتفاقية الدولية التى وقعت عليها مصر فى هذا الشأن.
ومن الصائب أن المادة (72) قد أناطت بالدولة رعاية مصالح المصريين المقيمين بالخارج، وأحالت إلى القانون تنظيم أحكام تمثيلهم وتصويتهم فى الانتخابات والاستفتاءات. ومن الصائب أيضاً تحصين المكسب المحرز بعد الثورة والخاص بقيام الدولة بإدراج اسم كل مواطن تتوافر فيه شروط الناخب فى قاعدة بيانات الناخبين دون طلب منه، وذلك بمقتضى المادة (49).
●●●
وهناك مواد أخرى صائبة تتصل بالحقوق والضمانات المكفولة للمواطنين يمكن لمن يريد أن يستزيد الرجوع إليها فى المسودة. ومع ذلك فمن المستحسن عند مراجعة المسودة الحالية للدستور تناول بعض الحقوق بدرجة أكبر من التفصيل، لاسيما حقوق الفئات الأضعف فى المجتمع كالعمال والفلاحين، ووضع خطوط إرشادية أو معاير لتنظيم بعض الحقوق، وذلك لتقييد سلطة المشرع عندما يحيل الدستور إلى القانون تنظيم حق ما، وللحد من احتمالات الانتقاص من هذا الحق أو مصادرته.