نشرت مدونة ديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة دعاء محمد، تناولت فيه القيود المفروضة من الحوثيين على زى المرأة اليمنية بدعوى حماية الهوية الإسلامية لليمن، ولكن ما يحدث هو طمس لهوية المرأة اليمنية التى اشتهر زيها بالألوان الزاهية، لذا تتبلور معركة النساء اليمنيات الحقيقية فى النضال من أجل استرداد حقوقهن المسلوبة فى الاختيار وتحديد هويتهن.. نعرض من المقال ما يلى:
يُعدّ فرض قيود على المرأة اليمنية وطريقة لبسها ظاهرة متكرّرة، ولم يشكّل القرار الذى اتّخذه الحوثيون بإلزام محلات العباءات النسائية ببيع الملابس الطويلة والسوداء سوى أحدث مثال على ذلك. وهو يُعدّ محاولة جديدة من الحوثيين لتقييد حرية النساء فى المناطق الخاضعة لسيطرتهم، بعد اتّخاذ تدابير مثل إغلاق مساجد عدة تصلّى فيها النساء، وفرض قيود على تنقلهن داخل البلاد، والفصل بين الجنسَين بشكل صارم فى الجامعات والأماكن العامة.
برّر الحوثيون اتّخاذ هذه التدابير بأنها تهدف إلى حماية «الهوية الإسلامية» لليمن. لكن ذلك أثار حفيظة الناشطين الحقوقيين وغيرهم على مواقع التواصل الاجتماعى، الذين ذكّروا متابعيهم بأن النساء اليمنيات ارتدَين تاريخيًا ملابس ذات ألوان زاهية، وخير دليل على ذلك الملابس الملونة من تهامة وريمة وزبيد وصنعاء وصعدة. إذًا، بدلًا من حماية التراث أو الهوية الإسلامية لليمن، يُرغم الحوثيون النساء على ارتداء ملابس لا تعبّر عن ماضيهن إلا بشكل انتقائى.
لطالما سعى المسئولون فى اليمن إلى إرغام النساء على ارتداء ملابس معيّنة فى الأماكن العامة. فقد حرص أنصار الأيديولوجيات السياسية الإسلامية على ضمان أن تعبّر ملابس النساء عن تعريفهم الخاص «للحشمة فى الإسلام». فخلال القرن العاشر مثلًا، فُرض على النساء لأول مرة ارتداء الستارة فى صنعاء خلال عهد أول إمام زيدى فى اليمن، الهادى يحيى بن الحسين. وكان القماش يُستورد أصلًا من إندونيسيا، ثم من الهند، ويُلبَس مع حجاب يغطى الوجه ويُسمّى المَغمُق، وتزيّنه أشكال ألماسية باللونَين الأحمر والأبيض، وكان المظهر يمنيًا بامتياز.
فى المقابل، باتت الألوان شبه معدومة خلال الفترة التى حكمت فيها الإمبراطورية العثمانية اليمن، إذ ارتدت النساء آنذاك ما يُسمّى بالشرشف، الذى يتألف من جزأَين سوداوَين بالكامل، الأول يغطى الجزء العلوى من الجسم ويُسمّى الخمار أو الحجاب، والثانى يغطى الخصر حتى القدمَين ويُسمّى التنورة. لكن سرعان ما اختفى هذا الزىّ مع ظهور العباءة فى اليمن أواخر ثمانينيات القرن الماضى، التى تُعتبر شكلًا «حديثًا» من أشكال اللباس، لكنها ليست يمنية الأصل، بل تم استيرادها من دول الخليج العربى، إذ تأثير الوهابية قويًا فى بعض الأماكن. وكانت العباءات فى الأساس سوداء اللون، حتى لو عُرضت لاحقًا بعضٌ من العباءات الملوّنة فى الأسواق، ما أظهر مجدّدًا ميل اليمنيات للعودة إلى الألوان المألوفة لهنّ.
شكّلت العباءة من نواحٍ عدّة خطوةً إلى الوراء بالنسبة إلى اليمنيات. فخلال السبعينيات والثمانينيات، عقب الانتفاضة التى اندلعت فى شمال البلاد ضدّ الإمامة، بدأت النساء بارتداء ملابس متنوّعة وملوّنة، سواء مع الحجاب أو من دونه. تُحكى أخبار كثيرة عن أن النساء اليمنيات كنّ يذهبن إلى العمل أو الجامعة وهنّ يرتدين ما يشأن من لباس، مادام كان محتشمًا. فى هذا السياق، تحدّثت الصحافية سهير السمّان عن سنوات طفولتها فى تعز، حين كانت النساء يرتدين أزياء متنوّعة فى مجتمع متقبّل ومسالم إلى حدٍّ كبير، مضيفةً أن الوضع استمر على هذا المنوال إلى حين ظهور العباءة، ما شكّل برأيها «انتكاسة».
وعلى الرغم من أن اليمنيات ارتدَين تاريخيًا الملابس ذات الألون المبهجة، غالبًا ما فُرض عليهن سياسيًا ارتداء لباس قيل إنه يُعبّر عن «هويتهن»، ولا سيما فى المدن الكبرى. صحيحٌ أن ثمة نوعًا من الحرص على ارتداء الأزياء التقليدية، بيد أن السؤال الذى يطرح نفسه هنا هو: هل سبق أن تمتعت المرأة اليمنية بأى هامش من الحرية فى اختيار ملابسها؟ وإن كانت لديها حرية الاختيار، فهل ستختار العباءة أم الستارة أم مزيجًا من الاثنتَين أم سترفض كليهما؟ الواقع أن هذا الخيار هو خيارها هى ويتعيّن عليها وحدها حلّ هذه المعضلة.
يثير هذا الموضوع تساؤلات حول ما يشكّل فعلًا الهوية اليمنية للنساء. وإن استندنا إلى أمثلة من الماضى، فسنرى أن مفاهيم الهوية فُرضت على النساء من دون الأخذ بآرائهن. إذًا، فى نهاية المطاف، تتمثّل معركة النساء اليمنيات الحقيقية فى اكتساب القوة، والنضال فى سبيل الهوية التى يخترنها لأنفسهن.
لم يكن اليمن وسكانه يومًا عرقًا واحدًا أو لونًا واحدًا، وهذا تنوّع يجب الاعتزاز به لا طمسه. لطالما رافقت النساءَ اليمنيات الألوانُ والمجوهرات، والأهم من هذا كلّه الشغف، سواء فى المدن والقرى اليمنية أو فى جميع أنحاء العالم. ثمة الكثير من التراث اليمنى قابل للاندثار، وقد حدث ذلك، لكن الأكيد أن ما من أيديولوجيا يمكن أن تدوم فترة طويلة بما يكفى لإكمال تلك المهمة.