نشر موقع درج مقالا للكاتبة إيمان عادل، نعرض منه ما يلى:
هذه الروح المنفلتة من القيود التى تتلبس جسد الأنثى الراقصة قد تحدث هذه الغواية المحظورة على مدار التاريخ دينيًا واجتماعيًا، لكن إلى جانب ذلك قد يتخطى الرقص منطق الغواية، ليحدث إشكالًا فكريًا وإنسانيًا من الصعب فكه أو حتى الاستقرار حول بنيته، فيصبح الرقص منفلتًا عن كل الأطر المحددة والمحسومة، عالقا طوال الوقت بين ثنائيات متضادة؛ فن/انفلات، مهنة/متاجرة، يعزز الصورة النمطية للمرأة /يكسرها، يروج لقضية أم لغواية، بصمة ولغة عالمية أم وصمة إنسانية، نسق ثقافى أنثربولوجى جماعى أم مشروع فردى.
على المستوى النظرى نرى أن الرقص الشرقى رغم غزارة منتجه عربيًا ورواجه على المستوى العملى ورغم الجدل القائم حوله، تعرض نظريًا لتهميش واضح فى الدراسات خاصة المتعلقة منها بدراسة انثربولوجيا الشعوب، ورغم أن الرقص يعد أحد التخصصات الفرعية لعلم الانثربولوجيا، إلا أن التهميش الواضح لدراسة هذا الفرع يكلف الحقل المعرفى خسارة الاطلاع على جانب من الثقافة والسلوك الإنسانى، فضلًا عن دراسة الأشكال التعبيرية والجمالية للثقافة، وليس هذا فحسب، بل إن إقصاءه نظريًا على هذا النحو يفسح أيضًا المجال لانتشار الأفكار المناهضة للرقص كسلوك إنسانى طبيعى، فيسمح للتبريرات الدينية والاجتماعية المنغلقة بأن تأخذ حيزًا لمحاولة تقويض الرقص من جذوره.
الدراسات التى تتناول الرقص الشرقى فى غالبيتها جاءت على لسان الرحالة الغربيين، ونتذكر هنا رحلات فلوبير إلى مصر، ثم جاءت الدراسات التحليلية المناقضة لهذه الزاوية لتتناول الاستشراق فى المرحلة الكولونيالية وما بعد الكولونيالية من وجهة نظر نسوية.
ولقلة الدراسات حول الرقص الشرقى نحن لا ندرك حتى ضرورة مراجعة مصطلح الرقص الشرقي، هل الرقص المعروف عربيًا ومصريًا تحديدًا رقص شرقى فعلًا؟ وأى شرق بالتحديد؟ أم هو خليط من رقصات عالمية قديمة، وثقافات تداخلت بحكم الاختلاط الثقافى خاصة مع بلاد اليونان ومصر القديمة وبلاد الشرق الأقصى والهند.
وفى تحقيق للكاتب المصرى فاروق أباظة بعنوان «الغروب الكبير فى شارع العوالم» المنشور بمجلة الكواكب عام 1960 تحدث عن بدايات ظهور العوالم فى شارع محمد على، وهو الشارع الطويل الممتد من ميدان العتبة حتى القلعة. يقول فاروق أباظة فى تحقيقه أن الرقص كان محرمًا على النساء المصريات فى القرن التاسع عشر، وبالأخص المسلمات منهن، حتى كسرت إحدى الفتيات المصريات الجريئات هذه القاعدة وأطلقت على نفسها اسم مريم، وهى جدة الفنانة سميحة توفيق، كى تستطيع العمل فى مجال الرقص.
بعدما كسرت مريم القانون، بدأ شارع محمد على يعرف مواهب نسائية تجيد الرقص مثل فايزة أم برقع التى كانت تقدم فقرتها بالبرقع، وتوحيدة وسعاد محاسن وزوبة الكلوباتية التى فاقتهن شهرة لأنها كانت تجيد الرقص وهى تحمل الشمعدان على الرأس بحيوية.
ويبدو أن تحدى مريم الراقصة كان فتحًا لكى تمارس باقى الراقصات من بعدها تحديات أخرى تتشابه جميعها فى تحدى السلطة والرقابة، فشفيقة القبطية رغم أنها كانت مسيحية ولم تواجه هذا النقد لامتهانها الرقص فى البداية لكنها تحدت كما يقول التعبير الدارج أكبر رأس فى البلد، أى الخديوى عباس حتى أنها كانت تواجهه مواجهة الند للند وفى أحيانًا كثيرة كانت تكسب معاركها ضده، لما تمتعت به من سلطة كراقصة جماهيرية ووسط بشاوات هذا العصر.
كان موكب شفيقة القبطية صورة طبق الأصل من موكب الخديوى عباس، وكان الناس يصفقون لها فى الشوارع مثلما يصفقون للجالس على العرش. لذلك حقد عليها الخديوى وأرسل لها من يأمر بتسليم موكبها للخديوى، إلا أنها رفضت، واشترت عربة أخرى بيضاء مذهبة لتركبها بالنهار نكاية فى الخديوى بجوار عربتها السوداء الموشاة بالذهب التى كانت تركبها بالليل.
يتحدث جليل البندارى عن سلسلة طويلة من مظاهر تحدى السلطة فى وقت كان من الصعب على «أتخن شنب» أن يتحدى عائلة أسرة محمد على. ويذكر جليل البندارى أيضًا أن شفيقة القبطية اعترضت على استخدام السودانيين والنوبيين المصريين كخدم فى قصور أسرة محمد على، وردّت على ذلك بأن استخدمت فتيات شركسيات ــ أسرة محمد على شراكسة ــ شقراوات فى قصرها بحارة السقايين وفى صالة ألف ليلة التى كانت تملكها فى مكان سينما رمسيس الآن بميدان العتبة.
***
وبالتوازى مع الفترة الزمنية التى تألقت فيها شفيقة القبطية، أو قبلها بقليل، جاءت الراقصة اللبنانية بديعة مصابنى إلى مصر، لتؤسس كامرأة أول صالة فى ثلاثينيات القرن العشرين وتتحدى احتكار الرجال لإنشاء الصالات والملاهى الليلية، ولم تكن بديعة مصابنى تهدف فقط لتحقيق الربح من خلال الرقص والطرب، بل هدفت إلى تعليم فنون الرقص على أصوله وتخريج راقصات من ملهاها، أبرزهن سامية جمال، حتى أن بديعة مصابنى أدركت أهمية السينما وقررت أن تجعل للراقصات دورًا مؤثرًا فيها.
كلما كان يزدهر وضع السينما فى مصر والصحافة كلما كان ذلك لصالح الراقصات، فقد كانت حياتهن تُكتب بشغف وأحيانًا كانت هذه الكتابات يملؤها المبالغات والخيال والأساطير، وإلى جانب ذلك كان يملؤها التطعيم بالمواقف التى تنم عن الحس الوطنى ولا ندرى هل كان إلصاق الوطنية ببعض الراقصات كان طبيعيًا أم محاولة لتعزيز صورتهن أمام أعين المثقف والسياسى المتعالى عن النظر للرقص الشرقى بجدية.
فقصة تحية كاريوكا لا يمكن النظر لها ليس فقط باعتبارها من أهم الراقصات المصريات على مدار تاريخ الرقص بشكله الحديث فقط، بل باعتبارها أيضا راقصة اهتمت بقضايا محورية أهمها قضايا النقابات حتى ارتفعت ربما فى نظر بعض المفكرين العرب كى ينظروا لها بجدية، وهو ما يطرح السؤال؛ هل ينبغى للراقصة أن يكون لها دور مجتمعى لينظر إلى مشروعها الفنى بجدية أكثر؟ وهل كانت هناك راقصات على شاكلة كاريوكا لم ينلن هذا الحظ من جدية التناول لأنهن لم يحملن همّا اجتماعيًا أو وطنيًا.
التعاطى مع قصة تحية كاريوكا شهد هذه الازدواجية الواضحة. صحيح أن تحية كاريوكا نالت اهتمامًا واضحًا أثناء حياتها، وبعد وفاتها، لكنها أُخذت على محمل الجد بعدما بدأت فى الدخول فى سلسلة وقائع سواءً فنية أو سياسية لها علاقة بالجدل السياسى وقتها، بداية من مشاركتها فى نمط المسرح الانتقادى بالتمثيل والرقص فى عدة مسرحيات تنتقد الأوضاع السياسية والاجتماعية مثل مسرحية يحيا الوفد، فكانت هذه الأدوار كافية لإحداث جدل يسلط الضوء عليها كراقصة، ثم دعمها لحقوق نقابة المهن التمثيلية، مما جعل أقلام كتاب كبار مثل إحسان عبدالقدوس ومصطفى أمين وصالح مرسى يكتبون عنها.
حتى وصفها محمد عبدالوهاب بأنها «حررت الرقص الشرقى من تأثير الأجنبيات – الأوروبيات والشاميات ــ مثلما حرر سيد درويش الموسيقى المصرية من تأثير الأتراك»، وهو ما يعد مجاملة فيها من المبالغة ما يقصى تجربة شفيقة القبطية ونعيمة عاكف وسامية جمال وغيرهن من الراقصات المصريات السابقات على تحية والمعاصرات لها.
تعامل تحية كاريوكا مع الرقص كان نفس تعاملها مع التمثيل فقد كانت ترى الرقص وسيلة للإقناع برسالة معينة، وقد كانت تشعر أنها من خلال الرقص تقوم بمهمة الإنسان الأول منذ بداية التاريخ الذى كان يعبر من خلال الرقص عن كل آلامه وأفراحه تقول فى إحدى حواراتها «الحصاد كان له رقص والجنائز لها رقص والمطر له رقص، الرقص ساعدنى على أن تصبح أذنى موسيقية كما أن الرقص عموما يجعل المرأة جميلة حتى لو كانت فى الواقع غير جميلة».
***
الراقصات يتعرضن لسلطة وحصار ليس فقط مجتمعى وسياسى ويحاولن التمرد عليه، لكن أحيانًا تكون هذه السلطة من داخل الوسط الفنى والوسط الثقافى، فهناك واقعة تشير إلى طريقة تعاطى أصحاب الوسط الفنى الواحد مع الراقصات، ففى حكاية سردتها الراقصة سهير زكى فى خلاف جمعها مع أم كلثوم، حينما قررت سهير زكى الرقص على أغنية «أنت عمرى» فغضبت أم كلثوم من أن تؤدى راقصة نمرتها على أغنية من أغانيها، لكن بعد وساطة من عبدالوهاب ذهبت أم كلثوم لتقيّم رقص سهير زكى، لترى إن كانت ستقاضيها وتمنعها من الرقص على أغانيها أم ستقبل هذا التعاون الفنى بين حنجرة أم كلثوم وجسد سهير زكى، إلا أن الأخيرة نجحت فى اختبار الست، فمنحتها أم كلثوم السماح على مضض.
***
الراقصات الجدد رفضن الرقص تحت عباءة تحية كاريوكا وزمنها بإيقاعه الهادئ ورقصها العمودى وليس الأفقى، أو كأن الرقص الأفقى أصبح متناسبا بشكل موضوعى مع هذا العصر الذى بدا يستهلك الإنسان بطريقة متسارعة حتى بدا الإنسان موتورا يلهث وراء المادة والفرص ليبدو ضائعا وتائها فى اتجاه أفقى أشبه بنمط الرقص الأفقى المتسق بشكل كبير مع عصره.
فيفى عبده أو سكاكر السكر تتحدى هنا سلطة الجمهور وهى ليست على خلاف مع سلطة سياسية أو سلطة فنية بقدر ما تحاول التمرد على سطوة الجمهور الذى يسخر منها أحيانًا ويطالبها بالاعتزال وتتحدى هى هذه الدعوات بالاستمرار بالرقص بشكل يومى ليس فقط فى المناسبات، بل على صفحتها الشخصية على انستجرام. فيفى عبده لن تستطيع ببساطة التوقف عن الرقص، لأنها ما زالت تتمتع بروح الراقصة بغض النظر عن الإمكانات الجسدية، فهذه الروح المتشبثة بالإيقاع الغارقة فيه والمنتشية به، تسمح لها بالاستمرار، متحدية من يصر على أن يرى الراقصة إمكانات جسدية فقط.
خارج صالات الرقص هناك رقص شرقى يعيش محاصرًا، رغم ولع المجتمع المصرى بالرقص فى الخفاء إلا أن العائلات ما زالت تنظر للرقص الشرقى فى المجال العمومى بشيء من الوصمة الاجتماعية.
النص الأصلي