ورد بمسودة الدستور غير قليل من المواد التى ضلت الطريق نحو دستور عصرى لكل المصريين، والتى تحتاج إلى تغييرات جوهرية. والتالى هو أمثلة مختارة من هذه المواد.
لننقذ الثورة من بين فكى الدولة العميقة
هناك أربع مواد فيها ما يثير المخاوف من الاتجاه إلى تديين الدولة، وهى المواد 221 و68 و4 و6. فالمادة (221) حاولت الالتفاف على رحابة المادة (2) التى جعلت مبادئ الشريعة الإسلامية المصدر الرئيسى للتشريع، والتى صارت محل قبول عام أيا كانت أسبابه، وذلك بتقديم تعريف ضيق وإقصائى لهذه المبادئ. فهى تقرر أن المبادئ تشمل «أدلتها الكلية وقواعدها الأصولية والفقهية ومصادرها المعتبرة فى مذاهب أهل السنة والجماعة». وهذا التعريف يتعارض مع حقيقة أن فى الإسلام تعددية فى المذاهب والفرق والشيع، وأنه يستتبع هذه التعددية بالضرورة تعدد فى الأحكام والاجتهادات بشأن أمور شتى. وهذا ما دعا د. السنهورى والمحكمة الدستورية إلى تعريف مبادئ الشريعة بأنها المبادئ الكلية التى لا تختلف من مذهب فقهى إلى آخر والتى تتصف بأنها قطعية الثبوت والدلالة، وبأنها لا تتصادم مع روح العصر.
وبالتالى فإن ما يخرج عن الدائرة المحددة بهذا التعريف يكون مجرد اجتهادات للتوصل إلى أحكام عرضة للتغير بتغير الزمان والمكان، ولا سبيل لترجيح حكم منها على آخر إلا بالاستناد إلى ما فيه مصلحة الناس (المصالح المرسلة)، وبالرجوع إلى الناس أنفسهم باعتبارهم أدرى بشئون دنياهم ــ كما جاء فى حديث الرسول ــ ولا طريق لذلك سوى الطريق الديمقراطى. ولا يستقيم مع تعددية أحكام الشريعة فى المسألة الواحدة الشرط الوارد فى المادة (68) المتعلقة بالمساواة بين الرجل والمرأة، وهو «دون إخلال بأحكام الشريعة»، ما دامت هذه الأحكام متعددة ومردها اجتهادات الفقهاء المتغيرة بتغير الأمكنة والأزمنة والمعرضة للصواب والخطأ بحسبانها من أعمال البشر.
ومن التعسف تغليب رأى جهة بشأن اتفاق أمر ما مع الشريعة على النحو الذى تضمنته المادة (4)التى قضت بأن «يؤخذ رأى هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف فى الشئون المتعلقة بالشريعة الإسلامية». فها هنا تم تجاوز «مبادئ الشريعة» إلى مجمل «الشريعة» على اتساعها وتراكم الأحكام المتنوعة فيها على مر الزمان؛ وها هنا تثور شبهة «ولاية الفقيه» على التشريع. فإذا كان من حق المسلم ــ بل ومن واجبه أيضا ــ استطلاع آراء أهل الذكر، فإنه ليس ُملزما فيما أعلم إلا بما يطمئن إليه عقله ويرتاح إليه قلبه عندما تتعدد الفتاوى أمامه (استفت قلبك). وهذا فيما يتعلق بالشئون الشخصية. أما فيما يتعلق بالشئون العامة، فلا مناص فى النهاية من الرجوع إلى رأى الشعب باعتباره صاحب المصلحة، وليس لذلك من سبيل فى الزمن الحديث سوى الأدوات الديمقراطية كالتصويت فى المجالس المنتخبة والاستفتاء المباشر للشعب.
وهذا ما يأخذنا إلى المادة (6)التى حشرت «مبادئ الشورى» فى تعريفها للنظام الديمقراطى. والاعتراض على ذلك يأتى مما يحيط بالشورى من خلافات كثيرة بشأن من يستشار من قبل الحاكم وما إذا كانت مشورته ملزمة أم غير ملزمة. زد على ذلك الخلاف بين الإسلاميين حول علاقة الشورى بالديمقراطية. فهناك من يعتبر الديمقراطية الصيغة العصرية للشورى، وهناك من يرى أن الشورى لا تمت بصلة للديمقراطية، حيث إن الديمقراطية تجعل الشعب مصدر السلطات والتشريع، بينما الأصل فى الشورى أن التشريع لله وحده، ولا مجال للثقة فى حكم الناس استنادا إلى قوله تعالى «وإن كثيرا من الناس لفاسقون» ــ كما جاء فى مقال د.السهرى فى أهرام 13 أكتوبر2012.
ولذا فإذا كنا نريد دستورا لأهل العصر، لا لأهل الكهف، فعلينا استبعاد المادة (221) والفقرات المشار إليها فى المواد (4) و(6) و(68)، وعلينا الاكتفاء بالمادة الثانية لعل الله يكفينا شر شقاق لا طائل من ورائه. كما يجب التخلص من العبارات الفضفاضة التى قد تفتح أبوابا للخلاف حول مدلولاتها لا نعرف كيف نسدها، مثلما جاء فى المادة (9) من وجوب حرص الدولة والمجتمع على «الطابع الأصيل للأسرة المصرية» وعلى «حماية تقاليدها وقيمها الخلقية»، ومثلما جاء فى المادة (10) من التزام الدولة «بالتمكين للتقاليد المصرية الأصيلة».
وثمة ما يدعو للقلق الشديد بشأن تعامل المسودة مع المؤسسة العسكرية. إذ يلاحظ أن المادة (196) قد اختصت مجلس الدفاع الوطنى بمناقشة موازنة القوات المسلحة، على أن تدرج رقما واحدا فى الموازنة العامة للدولة. وهو ما يعفى القوات المسلحة من الرقابة البرلمانية على ماليتها. ولا يسوغ قبول هذا النص بدعوى أن رئيسى مجلسى البرلمان أعضاء فى مجلس الدفاع الوطنى. فهما عضوان يمكن بسهولة تجاوز رأيهما فى مجلس يضم 14عضوا يرأسهم رئيس الجمهورية، منهم ثمانية من العسكريين. والاقتراح الذى يوفق بين خضوع موازنة القوات المسلحة للرقابة البرلمانية وبين الحفاظ على خصوصية هذه المؤسسة وأسرارها هو أن تناقش موازنة القوات المسلحة فى جلسة خاصة لأعضاء مجلس الدفاع الوطنى وأعضاء لجنة الأمن القومى بمجلس الشعب، على أن ترفع هذه اللجنة تقريرا بنتائج أعمالها للعرض فى جلسة مغلقة لمجلس الشعب. وفيما يتعلق بالنشاط الاقتصادى للقوات المسلحة، فقد سكتت عنه المسودة، وسوف نرجئ الكلام عنه لحين تناول ما غاب عن المسودة.
وفيما يتعلق بالتوازن بين السلطات، فبالرغم مما قيل عن اتجاه الجمعية التأسيسية للأخذ بالنظام المختلط، إلا أن المسودة قد أفرطت فى منح السلطات لرئيس الجمهورية؛ مما يقد يفتح الباب للاستبداد، ولو بعد حين. فالرئيس هو من يسمى رئيس الوزراء ويكلفه بتشكيل الحكومة حسب المادة (145). وإذا لم يوافق مجلس الشعب على برنامج الحكومة، يعين الرئيس رئيسا جديدا للوزراء ويشكل حكومة جديدة. فإذا اعترض عليها مجلس الشعب، يشكل رئيس الجمهورية الحكومة بناء على اقتراح مجلس الشعب. وإذا لم يتم ذلك خلال شهر، يحل الرئيس مجلس الشعب. وهذه حقا مادة عجيبة، ولا لزوم لها فى وجود إجراء أيسر كثيرا، وهو أن يكلف الرئيس الحزب أو الائتلاف الفائز بأغلبية الأصوات فى الانتخابات التشريعية بتشكيل الحكومة.
ومن الإفراط أيضا فى السلطات الممنوحة للرئيس أنه «يضع السياسة العامة للدولة ويشرف على تنفيذها بالاشتراك مع الحكومة» (المادة 156)، وأنه من يعين رؤساء الأجهزة الرقابية والهيئات المستقلة بعد موافقة أغلبية مجلس الشيوخ (الشورى) الذى يعين الرئيس ربع أعضائه (المادة 204)، وليس حتى بموافقة مجلس النواب (الشعب) المنتخب بالكامل. وهو ما يثير الشبهات حول استقلالية هذه المؤسسات، مثلما أثارت المادة (183) ثائرة المحكمة الدستورية لمنحها الرئيس صلاحية تعيين رئيسها. وللرئيس أيضا اقتراح مشروعات القوانين (المادة 99) واستفتاء الشعب فى المسائل المهمة (المادة 148)، بل وله أن يحل مجلس النواب «عند الضرورة» (المادة 129)، وما أدراك ما هى «الضرورة»!
وثمة ثلاثة عيوب أخرى فى المسودة تستحق الذكر، وسوف أترك ما جاء بشأن السلطة القضائية لمن هم أعلم منى بحسن تنظيم أمورها. أولها النص على برلمان من مجلسين: النواب والشيوخ. وفيما أرى، لا حاجة للبلاد إلى مجلس للشيوخ، وذلك لما يتطلبه من نفقات فى بلد مثقل بالديون ويئن من عجز الموازنة، وفى أوضاع لا مجال فيها لإطالة الإجراءات التشريعية بعرض مشروعات القوانين على مجلسين قد يختلفان فى الرأى وتحتم المسودة اتفاقهما. زد على ذلك أنه لا لزوم لهذا المجلس مع الاتجاه لإنشاء مجلس اقتصادى واجتماعى منتخب، ويجب على الحكومة والبرلمان أخذ رأيه فى السياسات ومشروعات القوانين الاقتصادية والاجتماعية والبيئية (المادة 209). وثانيها هو الإبقاء على نظام الإدارة المحلية دون تحويله إلى حكم محلى حقيقى. وثالثها يتعلق بالنظام الاقتصادى، حيث تضمنت المادة (13) فقرات غريبة مثل «حماية الإنتاج»، مع أن هذه سياسة قابلة للتغير وليست هدفا ثابتا، ومثل «المشاركة بين رأس المال والعمل فى تحمل تكاليف التنمية»، مما قد يفتح الباب لتحميل الطبقات الفقيرة بعبء مواجهة المشكلات الاقتصادية. كما أغفلت أمورا مهمة مثل التخطيط القومى الديمقراطى وارتكاز التنمية على المعرفة والبحث والتطوير التكنولوجى.
أستاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومى