كأنه يبحث عن قطة سوداء فى غرفة مظلمة، يبدو العقل السياسى العربى تائها ومشوشا وعاجزا عن تفسير وفهم الأحداث الكبيرة والحروب الساخنة التى يشهدها الشرق الوسط منذ عدة سنوات، بداية من اسقاط صدام حسين فى العراق، مرورا بالحروب التى اندلعت فى ربوعه، ثم اشتعال الحرب فى سوريا، والظهورالغامض لتنظيم داعش واحتلاله مساحات واسعة من الأراضى، نهاية بالحرب التى تشتعل الآن فى اليمن، والتى تتأرجح بين البحث عن نهاية لها بعقد مباحثات سلام بين الحوثيين وحكومة الرئيس هادى، وبين التفكير فى تصعيد الحرب وإرسال قوات برية لحسم الصراع ضد الحوثيين.
وحتى مراكز البحوث والدراسات السياسية والاستراتيجية المنتشرة فى عالمنا العربى، عجزت عن تحليل ما يحدث، ولم تقدم لنا أية دراسات جادة تربط هذه الاحداث الكبيرة فى منطقتنا بسياسات وخطط الدول الغربية لدولنا، بكل ما يتردد عن خطط الفوضى الخلاقة التى طرحتها واشنطن فى عهد الرئيس جورج بوش الابن، ورسم خرائط جديدة لدول المنطقة، وتقسيمها لعدة دويلات قومية صغيرة، وكأننا على أعتاب سايكس – بيكو جديدة.
ووسط هذا «التوهان» قرأت دراسة مهمة على موقع «ساسة بوست»، قدم فيها الكاتب ياسر نجم، استعراضا تاريخيا لخرائط تقسيم المنطقة التى تتبناها قوى اليمين الإسرائيلى والامريكى منذ اكثر من 30 عاما، والتى ترى ان حدودنا التى رسمها اتفاق سايكس بيكو منذ 100 عام أصبحت هشة ومتداعية ومعرضة للانهيار فى زمن قياسى بفعل التحلل الذاتى، وعجزها عن بناء نظم ديمقراطية حديثة.
وتشير الدراسة إلى أن المرحلة الأولى لتقسيم الدول العربية ترجع لعام 1982، وكان وراءها سياسى إسرائيلى غامض يدعى اودد يينون، وكان قريب الصلة من حزب الليكود وزعيمه ارئيل شارون، والذى طالب بـ«لبننة» الدول العربية والإسلامية وتقسيمها إلى «بلدان طوائف» وعلى رأسها العراق وسوريا ومصر وتركيا وباكستان، كما كان الحال عليه فى لبنان آنذاك، لكى تتمكن إسرائيل من السيطرة على المنطقة. ويستعرض الكاتب ايضا خرائط برنارد لويس عام 1992، الذى طالب باعادة احتلال إسرائيل لسيناء ومحو الدولة اللبنانية من الوجود، وتقسيم المنطقة طبقا لخطوط عرقية طائفية لغوية، والسيطرة على منابع البترول بالسيطرة من الخارج لدول احتلال عسكرى، مشيرا إلى أن غياب دول حديثة فى المنطقة سيساهم فى سقوط أنظمة الحكم بها مما يسهل من اعادة رسم خريطة المنطقة، أما اليمين الأمريكى ممثلا فى السياسى رالف بيترز المنتمى للجناح الصهيونى فى الحزب الجمهورى فقد نشر دراسة عام 2006 بعنوان «حدود الدم» طالب فيها باقامة دولة للاكراد وتوحيد سنة العراق وسوريا فى دولة واحدة، وتقسيم السعودية بحيث تخضع الحجاز لنموذج يشبه الفاتيكان، وضم شيعة الخليج والعراق فى دولة واحدة. اما جيفرى جولدبرج، وهو من المنتمين لنفس جناح رالف بيترز داخل أروقة السياسة الأمريكية، وناشط له ثقله فى اللوبى الصهيونى، فقد كتب سلسلة مقالات ترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط، على صفحات مجلة «أتلانتيك»، طالب فيها بتقسيم السودان، وإقامة دولة سيناء المستقلة، واقامة دولة شيعية مستقلة فى جنوب لبنان.
ورغم ان الدراسة قدمت العديد من التصورات الغربية لرسم خرائط جديدة للعالمين العربى والاسلامى، واعتمدت على آراء موثقة لشخصيات نافذة فى امريكا وإسرائيل، إلا أن الأمر يحتاج من الحكومات والنخب العربية والإسلامية لبذل المزيد من الجهد السياسى والبحثى، لتحليل ابعاد هذه «الفوضى الاستراتيجية» التى تتقاطع وتتلاقى فيها خطط وسياسات الدول الكبرى والإقليمية، مع تصورات الحكومات والقوى السياسية فى دولنا، والتى نبدو خلالها وكأننا نحارب طواحين الهواء، ونحن نساق إلى مصائر لا نعرف لها حدود ولا اتجاهات ولا اهداف، رغم اشتداد الأعاصير التى تضرب المنطقة من كل الاتجاهات!