لست خبيرا فى القضايا الدستورية. ولكن اهتمامى بالشأن العام واشتراكى فى العمل السياسى جعلانى أنفق غير قليل من الجهد والوقت خلال السنوات الخمس الماضية فى بحث القضايا الدستورية التى تواجه بلادنا. فاطلعت على دراسات متعددة فى الموضوع، وعلى دساتير سابقة لمصر ودساتير حديثة لعدد من الدول، وكتبت ثلاثة بحوث تمت مناقشتها فى عدد من الملتقيات السياسية. وما توفر لدى من معلومات يجعلنى أعجب أشد العجب من قوم يزعمون أن دستور مصر ما بعد الثورة يمكن أن يكتب ويصدر خلال أسابيع قليلة.
لو أن كل من يتبنون هذا الرأى من فلول النظام السابق، ما كان هناك باعث للعجب. فهؤلاء لا يريدون تغييرا حقيقيا ولا يعترفون بأن ثورة قامت، وكل همهم هو العودة بأسرع ما يمكن إلى دستور ونظام لا يختلفان كثيرا عن نظام المخلوع. ولكن من العجيب حقا أن يكون من بين أصحاب الزعم بإمكانية إنجاز دستور على وجه السرعة شخصيات منتسبة للثورة. وأنا أدرك حسن نواياهم وطيب مقصدهم. فغرضهم هو الإسراع بإنهاء المرحلة الانتقالية وبدء مرحلة جديدة للحكم المدنى برئيس ودستور جديدين. ولكن المشكلة فى ذلك هى أن الطريق إلى جهنم كثيرا ما يكون مفروشا بالنوايا الحسنة، كما يقول المثل السائر.
وتقوم دعوة الدستور السريع على افتراض يتألف من ثلاثة أجزاء. أولها أن دستور 1971 الذى تم تعطيله بعد قيام الثورة يشكل أساسا صالحا يمكن البدء فى إعداد الدستور الجديد. وثانيها أن الأبواب الأربعة الأولى من دستور 1971 (الدولة ــ المقومات الأساسية للمجتمع ــ الحريات والحقوق والواجبات العامة ــ سيادة القانون) جيدة بوجه عام، وقد لا تحتاج إلا إلى تعديلات طفيفة، ومن ثم فإن تعديلها لن يستغرق وقتا يذكر. وثالثها أن الأبواب الثلاثة الأخيرة فى دستور 1971(نظام الحكم ــ أحكام عامة وانتقالية ــ الأحكام المتعلقة بمجلس الشورى وسلطة الصحافة) هى التى تحتاج إلى تعديلات مهمة، ولكن هذه التعديلات ليس عليها خلاف كبير، ومن ثم لا تحتاج لوقت طويل لإنجازها، وذلك استنادا إلى اعتقاد القوم بأن ثمة توافقا عاما بشأن نظام الحكم المرغوب فيه، ألا وهو النظام المختلط أو شبه الرئاسى.
●●●
وفى تقديرى أن هذا الافتراض غير صائب، ولا يمكن الركون إليه للقول بإمكانية إعداد الدستور الجديد فى وقت وجيز. وهذا التقدير مبنى على عدة أسباب تتصل جميعا بالرغبة فى أن يكون الدستور الجديد دستورا يليق بالثورة ويتوافق مع طموحاتها ويتناسب مع التضحيات التى قدمت من أجل قيامها واستمرارها.
من هذه الأسباب أنه ليس صحيحا أن الأبواب الأربعة الأولى كافية فى الأساس، وأنها قد لا تتطلب سوى تعديلات يسيرة. فهناك تعديلات كثيرة مطلوبة فى هذه الأبواب لغرضين أساسيين. أولهما أن يتمشى الدستور الجديد مع الاتجاهات الحديثة فى إعداد الدساتير، والتى تقضى بالتوسع فى إدراج الحقوق الاقتصادية والاجتماعية وتفصيلها، ووضع مبادئ حاكمة لتوفيرها للمواطنين، وتحصين هذه الحقوق بالنص فى الدستور على آليات لمراقبة تنفيذها، وآليات للمساءلة عن التقصير فى تنفيذها. فالدستور البرازيلى قد تضمن فى مادته السابعة التى تشغل صفحتين تعداد وتفصيل عدد من الحقوق الخاصة بالعمال فى الريف والحضر. ثم تناول فى المادة الثامنة الحق الخاص بإنشاء التجمعات المهنية والتنظيمات العمالية. وفضلا على ذلك فقد احتوى الدستور البرازيلى على باب بأكمله (الباب الثامن) عنوانه: النظام الاجتماعى، وخصص فى هذا الباب فصلا لكل قضية من القضايا الاجتماعية كالتعليم والعلم والتكنولوجيا والثقافة والرياضة والتواصل الاجتماعى والبيئة والأسرة والطفولة والشباب والشيوخ.
والفكرة من هذا التناول الموسع والتفصيلى للحقوق الاقتصادية والاجتماعية هو تحصينها ضد الإلغاء أو التخفيض، وتضييق سلطة المشرع فى تنظيم هذه الحقوق والحيلولة دون الالتفاف عليها، وتوفير مرجعية قانونية مهمة عند الضغط على الحكومات من أجل تنفيذها أو عند اللجوء إلى القضاء لتفعيل حق ما أو إلى إجراءات المساءلة البرلمانية للحكومة عن التقاعس فى تطبيق ما نص عليه الدستور من حقوق للمواطنين.
أما الغرض الثانى من تعديل ما جاء فى الأبواب الأربعة الأولى من دستور 1971 فى اتجاه المزيد من التحديد والتفصيل فهو أن الكثير من المواد جاءت غفلا من أى مبادئ منظمة للحقوق، واكتفت بالإحالة للقانون؛ وهو ما يفتح الباب على مصراعيه أمام المشرع لتنظيم هذه الحقوق حسب الظروف والأهواء. فالمادة (6) من هذا الدستور الخاصة بالجنسية المصرية تقرر أن «الجنسية المصرية ينظمها القانون». وعلى ذلك لم تتضمن هذه المادة أى كلام فى شأن كيفية اكتساب الجنسية المصرية، وفى شأن جواز أو عدم جواز ازدواج أو تعدد الجنسية للمواطنين، وفى شأن المناصب التى لا يجوز لغير حاملى الجنسية وحدها شغلها، وأحالت كل هذه المسائل المهمة للقانون. وهناك مواد كثيرة تمت صياغتها على هذه الشاكلة، ومن ثم فهى تحتاج إلى إعادة صياغة فى الاتجاه الذى اقترحته. وهو ما سيثير مناقشات ليس من الحكمة ابتسارها بحجة السرعة.
●●●
أضف إلى ذلك أن بعض مواد الأبواب الأربعة الأولى تحتاج إلى تعديلات من زوايا أخرى. فمثلا هناك المادة الثانية المتعلقة بدين الدولة والتى تعتبر مبادئ الشريعة المصدر الرئيسى للتشريع. لقد أثارت هذه المادة عاصفة من النقاش الذى لم يحسم، ولكنه توارى بفعل طوفان الجدل حول المادتين المتعلقتين بالوضع الخاص للقوات المسلحة فيما عرف بوثيقة السلمى. وأعتقد أن الجدل سوف يتجدد حول هذه المادة وسوف يستهلك وقتا غير قصير لحسمه. ومن الأمثلة الأخرى نذكر المادة (18) التى نصت على إلزامية التعليم فى المرحلة الابتدائية والتى يجب تعديلها فى ضوء أن التعليم قد أصبح منذ وقت طويل إلزاميا فى مرحلة التعليم الأساسى. ونذكر المادة (20) التى تنص على مجانية التعليم فى مؤسسات الدولة التعليمية، والتى يجب أن تحصن بالنص على ضرورة تعديل ما يخالف ذلك فى القوانين والقرارات واللوائح التى التفت على مبدأ المجانية بفرض رسوم قد تفرغ المبدأ من مضمونه. كما يتوجب تضمين الدستور الجديد مبادئ حاكمة ومنظمة للتعليم الخاص مع التأكيد على مبدأ إشراف الدولة على جميع المؤسسات التعليمية، بغض النظر عن ملكيتها، وذلك بهدف ترسيخ الهوية المصرية والحفاظ على اللغة العربية ومقاومة التعددية الضارة فى النظام التعليمى. وهذا ليس إلا قليلا من كثير من الأمثلة التى يمكن الإفاضة فيها لولا ضيق المساحة.