السؤال السادس.. سؤال الفاعل - الطاهر لبيب - بوابة الشروق
الأربعاء 23 أكتوبر 2024 9:25 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السؤال السادس.. سؤال الفاعل

نشر فى : الجمعة 8 يوليه 2011 - 10:51 ص | آخر تحديث : الجمعة 8 يوليه 2011 - 10:51 ص

 انشغل حديث الثورة بتفصيل الفعل وتحاشى تحديد الفاعل، إلاّ ما استقرّ منه، فى التعميم، منذ البدء: ثنائية الشعب والشباب، مضافا إليها الطبقة الوسطى، ولو بتردّد وبإصرار أقل. ما زاد عن ذلك، ومنه الجيش والقبيلة، حضر أو غاب، قوى أو ضعفَ، بحسب الحالات العربيّة. ولم يكن غياب التحديد لضيقٍ فى الرؤية وإنما لتداخل أصناف الفاعلين، عبر الفضاء الاجتماعى كلّه، ولضيق الوقت بصيرورة التمايز والفرز.

لقد كان من الصعب، على وجه الخصوص، معرفة انعكاس التمايز الاجتماعى فى تركيبة الحركة الثوريّة. هذه الصعوبة ليست تحليليّة، فحسب، وإنما واجهتها الحركات والأحزاب التى لم تستطع تحديد «فاعليها»، وإنْ أوحت بأنهم وراءها، فى موقع ما، وبحجم ما، ينتظرون ساعة الفرز الانتخابى. وإذا بدت لقليلها ثقةٌ بقواعدها فأكثرها لاذ بشعارات فيها نيّة إغراء «الجميع». وأغلب الظن أنه لو صُنّفت شعارات الأحزاب، تصنيفا ذا دلالة فى علاقته بالتصنيف الاجتماعى، لسقط منها تسعةُ أعشارها.

لم يكن من قبيل المصادفة أن يبرز ثالوث الشعب والشباب والطبقة الوسطى فى ثورةٍ نزعت الى الكليّة والقصوويّة، كما هو الحال فى تونس، على الأقل: لقد كان تثبيتا تلقائيا لاجتماعيةِ الحركة الثورية. نعلم ما يلاقى، اليوم، مفهوم الحركة الاجتماعية من نقد أو رفض لدى أصحاب «البراديغما الجديدة» المعلنين تعويضَها بالحركة الثقافيّة. قد يكون صحيحا أنّ مطلب «الحرية والكرامة» مطلبٌ ثقافى، ولكن فى ظاهره فقط: فى باطنه، فى ما يحرّك معاناةَ شعب، بما احتوى من شبابه وفئاته، هو، فى كليّته وأقاصيه، مطلب اجتماعى، مهما تقاسمته «الهويّات» واختزلته الظروف والمراحل.

لا شك فى ضرورة إعادة النظر فى تعريفات الحركات الاجتماعيّة، باعتبار الجديد منها وما خرج عن التعريفات المألوفة، منذ أواسط القرن التاسع عشر، وتحديدا منذ ظهور الحركات العمالية فى المجتمع المصنّع، وصولا إلى حركات المجتمع المدنى، ومرورا بحركات التحرر الوطنى. لكن إذا كان الالحاح على جدّة الحركات مبرّرا فى مجتمعات ترتبط فيها الجدّة بطور من أطوار الحداثة (وهذه حدود مبررات آلانْ تورينْ، مثلا) فإن ما يُفترض من «انهيار العالم الذى سميناه اجتماعيا»، بسبب تفكّكه وتعاظم القوة الموضوعة فوقه والدعوةِ إلى الفردانية فيه، هو مما ينبغى الحذر فى تعميمه. قد تكون الجدّة، عربيّا، فى محصلتها وإجمالا، فى اتجاه معاكس: تنتقل حركات المدّ الثورى، مهما علت شعاراتها الثقافية ومهما عُلّقت دلالتها الاجتماعية، من الثقافى إلى الاجتماعى، مرورا بالسياسى.

حتى الدينى ــ باستثناء مُعنِّفيه ــ يبدو ساعيا، فى السياسة، إلى إنزال المطالب من السماء إلى الأرض، وهو ما قد يسمى «اعتدالا».

غالبا ما لا يتجاوز التصنيف «الاسم الحركى» للفاعلين، مكتفيا بتحرّكهم وأدوارهم. هذا التجلّى سهل الرصد والتصنيف. الصعب، هو تصنيف الفاعلين، بحسب موقع كل صنف فى التركيبة الاجتماعية وطبيعةِ علاقته، فى أبعادها المختلفة، بالأصناف أو القوى الأخرى. هذا حد أدنى لتحديد وتفسير المشروع الذى يحمله الفاعلون. إن صعوبة تصنيف الفاعلين فى الثورة العربية الجارية، حتى ولو انحصر فى بلد واحد، دفع إلى التعميم، كما دفع إلى سحب الفعل الاجتماعى من الواقعى إلى «الافتراضى»، ولرّبما إلى الأسطورى:

ظهر الشعب، فاعلا، كقوة مادية ذات حجم، وكقوة رمزيّة، كامنة، تسكن المفاجئَ من الظواهر، ولا تُردّ لأن فى ردّها فقدانَ شرعيّة. لا سلطة جرؤت على القول بمواجهة شعبها، إذ هى، قولا، لا تواجه إلا «أعداءه» الخارجين منه، عليه. مفهوم الشعب، مثلما هو مفهوم المجتمع، لا يفيد كوحدة تحليليّة، لعمومه، وإنْ كان التحريك به فاعلا، فى الثورة، بإحالته على أوضاع الفئات الغالبة وعلى مطالبها. مفهوم الشعب، من جهة الفعل ملتبسٌ: هو كلُّ ما ضمّ مجتمع من أهله، وهؤلاء منهم من يدفع الثورة ومنهم من يعرقلها. لهذا ينحصر معنى الشعب، أحيانا، فى مستضعفيه. هكذا يُقال ــ وأقول ــ إن الثورة شعبيّة، من دون معرفة لحدود الشعبى فيها، وتناسيا لتناقضاتها.

مفهوم الشباب ليس أقل التباسا. أول اللبس سياسى أو إيديولوجى: قد يزيل التركيز على الشباب شعبيّةَ الفعل الثورى. يقابل هذا عدم التمسّك بفئة عمريّة، حتى لكأن المقصود بفعل الشباب «شبابيّة» الفعل. هذا غير مستبعد، فقد شارك فى الفعل من مسح بيده شيب رأسه وقال قولته الشهيرة: «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة».

على أن الأقصى، ولعله الأقسى، هو الميل إلى المماهاة بين الشباب وفئةٍ فايسبوكيّة أو فئة «الشبايبوك»، إن صحّ المزج: قيل عن شباب الثورة إنهم «فاعل رقمى» و«جيل إلكترونى» و«عفاريت إنترنت»، وقيل عن الفيس بوك الذى يستعملونه إنه «مهاد ثورتهم» و«وطنهم» و«غرفة عملياتهم»، وأجمع الناس على أن عالمهم «افتراضى». يساند هذه النعوت أن خمسة وخمسين مليونا من العرب يستخدمون الانترنت وأن خمسة عشر مليونا منهم يستخدمون الفيس بوك.

لا شك فى فاعليه ما استعمل الشباب (وغيرهم) من تكنولوجيا الاتصال الحديثة، وسيلة للتواصل والتعبئة، ولكنّ القساوة على الشباب، ولربما على أنفسهم، هى فى نسبة الفعل الثورى إلى التقنيّة، نسبة غيّبت فاعلين حقيقيين، مثقفين، واعين، أذكياء.

كثيرا ما يكون الحديث عن الفيس بوك أو ما شابه من الشبكات، وكأنه الفاعل الأول والأخير، من دون حاجة إلى ذكر أصحابه المتحوّلين إلى أسماء خفيّة، باستثناء من أُتيح له منهم الظهور. لقد غيّر الشباب ما ساد، طويلا، من صور منمّطة عنهم، ولكنّ الاختزال التقنى هو أيضا ينمّط صورا أخرى، أخطر ما فيها تغييب الفكر والوعى، أى قدرة الشباب على بناء خطابهم الثورى، وهو لم يَنبنِ بعدُ. قد يبدو فى لفت النظر هذا موقفٌ من ثقافة جديدة.

إن بدا ذلك فخطأٌ، لأن القصد من لفت النظر تثمينٌ وتحصين لقدرة شباب ثبّتوا، فى الواقع، إرادة هى الأضمن للفعل الثورى، على المدى البعيد.

فِعل الطبقة الوسطى له مضمون اجتماعى هو فى مفهوم الطبقة ذاتها، ولكنّ النظرة إلى هذه الطبقة، على أنها من مكونات الشعب أو من صلبه، أكسبتها الثوريّةَ وجرّدتها من طبقيتها.

وإذا كان الداعى إلى ظهور المفهوم هو الإشارة إلى أصنافٍ من نوع المتعلّمين (بدءا، فى تونس، بالعاطلين عن العمل من أصحاب الشهادات الجامعيّة)، ومن نوع الموظفين وذوى المهن الحرة ممن شاركوا فى الثورة، فإنّ لا طبقيّة النظرة تحول دون معرفة شكل الوعى الخاص بهذه الطبقة، مقارنة بغيرها. وعلى كلٍّ، فالجديد، فى مرحلةٍ تراجع فيها حديث الطبقات وكثر فيها الحديث عن تآكل الطبقة الوسطى، أن الثورة أعادت الفعل إلى هذه الطبقة المشكوكِ، تقليديّا، فى أمرها.

هذه أصناف ثلاثة لا مبرّر لذكرها، حصرا، إلاّ كونها من ثوابت ما ساد من خطابٍ عن الثورة العربية. وهى يمكن أن تتفرّع (كأن تظهر، ضمن الشعب، «فئات محرومة»، بل وحتى «قبائل ثوريّة»!)، وأن تمتدّ إلى «مكونات» المجتمع المدنى التى اتسعت مبادراتها وتنوع فعلها، وظهرت فيها المرأة قوة فاعلة، وبشكل غير منتظر فى بعض البلدان العربية. يمكن أن تمتد، أيضا، إلى الإعلام، أكثر الفاعلين «افتراضيّة»، وإلى الاتحادات، بداءا بالنقابية منها، ولربما إلى بعض الأحزاب، وإن بدا فعلها مشدودا إلى سياسة أهدافها.

ومهما يكن، فلا يزال الفعل الثورى فى مرحلته الأولى، بين مد وجزر. مراحله القادمة أصعب، لا لأن ممكن الفعل قد يضيق بالمستحيلات، فحسب، وإنما أيضا لأن الفاعلين يغيرون مواقعهم، فهناك من سيقف دون القطيعة التى هى عنوان كلّ ثورة، وهناك من سيواصل فعل التجاوز. عندئذ سيكون الحسم أوضحَ والتصنيف أسهلَ.

الطاهر لبيب  أستاذ علم الاجتماع- تونس
التعليقات