اسئلة الثورة - الطاهر لبيب - بوابة الشروق
الأربعاء 23 أكتوبر 2024 9:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اسئلة الثورة

نشر فى : الجمعة 17 يونيو 2011 - 9:14 ص | آخر تحديث : الجمعة 17 يونيو 2011 - 9:14 ص

3 سؤال الممكن

تعريفات الثورات العربية مؤجلة. ليس، الآن، غير الاكتفاء بما قد يبدو، فى المطلق، من المسلمات ولكنه، فى الحالة العربيّة، من المفاجآت: القول بثورة الممكن. المفاجأة هى فى خروج الممكن الاجتماعى من «مستحيل» الخطاب، وعليه.

يتذكر جيل الستينيات وبعضِ السبعينيات خطاب يسارٍ عربى استفزَّ الممكن، مَرْكسه، بلْتره، قوْمجه، وطّنه، عوْلمه، ناضل، ضحّى، مات من أجله، ولم يتحرك هذا الممكن الحَرون. عندئذٍ، أعلن خطاب العرب السائد خروجهم من التاريخ (قبل إعلان فوكوياما نهاية «تاريخه»). زايد فى جلد ذاتٍ مبهمة، لا حراك لها، واستبطن استحالة التحولات الكبرى.

●●●

توارى ذلك المثقف الملحمى، خصوصا مثقف الستينات، ذلك الذى صاغ المشاريع الكبرى وإغراءَ الإيتوبيا. فكّر وتصرّف على أنّ التحوّل آتٍ، لا محالة، حتّى ولو كان «الحلّ البروليتارى للقضيّة الفلسطينية (وهذا عنوان كتاب). انتهت الملحمة وبقى منها رفيقان، أحدهما شاهر بدائلَه والآخر إحباطَه: مثقف بدائلى رأى أن التاريخ العربى لا يمكن أن يكون غبيّا إلى هذا الحد، ومثقف تراجيدى (شبيهٌ بالبطل الإشكالى عند لوكاتش)، واصل التمسك بمشاريع يعلم أن الواقع لا يحقّقها. هذا المشهد وسّع المجال، فسيحا، لاعادة انتشار المثقفين العرب، انتشارا مدهشا ومفزعا، كما اتّسع لمثقف مقاول مشى على انقاض ما استحال من الممكنات، يسوِّق الخبرةَ المطيعة، تلبية لسوق الطلب والاحتواء والإغراء. هكذا تحوّل الكثيرون إلى «خبراء» و «مستشارين» يفتون فى كل شىء.

●●●

المفاجأة، إذا ــ ولعلّها مفارقة ــ أن هبّة الممكن حدثت فى مرحلةٍ تراجع فيها المد الثوري، فكريا وسياسيا وإيديولوجيا: تراجعت مرجعياته الكبرى (الماركسيّة والقوميّة، أساسيّا)، وتراجعت الحركات الاجتماعية القادرة على تحويل مطالبها من القوة إلى الفعل، وتحلّلت الحركات السياسية والأحزاب أو انحلّت، باستثناء ما ندر. فى مرحلة التراجعات هذه واحباطاتها «عاد» عرب الواقع إلى تاريخٍ كانوا تركوا فيه ممكنَهم. لقد كان آخر ما استقرّ من صورهم أنهم لا يثورون، فتبيّن أنهم يثورون، وأنهم إن ثاروا أنجزوا بأقصر الطرق، فى بعض حالاتهم، وأنهم ثبتوا، فى حالات أخرى، طالت بهم فيها الطرق واحمرّت الميادين.

إثبات الممكن هو فى حدّ ذاته، منعطف: أن يُطرِد العربى خوفَه من حركاته وسكناته فهذا الإمكان اكتشاف عربى جديد. أن تظهر، وراء صلابة الدكتاتوريات العربية وصلَفها هشاشةٌ تجعل من سقوطها سقوطا سريعا ومُذلاّ فهذه واقعةٌ كانت مؤجلة إلى يوم القيامة. أن يحتدّ النقاش فى ما كان رسميا من وسائل الاعلام، مكسّرا قيود المنع والإملاء والمجاملة، وحتّى الكياسة، فهذا مشهد «سريالى» لا يكاد يصدّقه من مرّ عليه يوم واحد من أيام تسلّط السلطة الرابعة. ثمّ من كان يرى، قبل المنعطف، أجلا لمحاسبة فسّادٍ تقودهم مافيا نهِمة، غبيّة، سوقية، مرعبة؟ من كان يرى، قبله، أجلا لتفكيك حزبٍ نسج الطمع والخوف، وعلّم الوشاية بكلّ إشارة أو فكرة «ضالّة»، حتى لو كانت لا تزال فى الخاطر: وشاية كبقر البطون، خوفا من ميلاد كافر؟


●●●

المنعطف هو إدراك ما كان لا يُرى. أمّا ما يدرَك فيسمى مكتسبات ينزع التفاؤلُ أو الفرح المستبشر بها إلى استبعاد نكستها، فى المدى المنظور. يسعى الثوار ومساندو الثورة إلى تحصين المدى الأبعد، بالدستور والقوانين والمؤسسات والمشاريع وهيئات «حماية الثورة»، كما يجرى هذا، فعلا، فى تونس ومصر، ولكن خوفا من بعيد لا يُرى يدفع الكثيرين إلى التصرّف فى مفاجآت الحريّة، تصرّفَهم فى غنيمة لا تؤجّل. الموقفان وجهان لمسألة واحدة: عدم الاطمئنان إلى مستقبل الثورة. للوجه الثالث دربة التناسل والتناسخ.

له أقنعتُه، إلى حين. وخلافا لما يُظنّ، قد يكون أكثر اطمئنانا على مصيره! الثورة نفسها تسدّ مساربه القديمة وتفتح له مسارب جديدة إلى «لعبة» الديمقراطية. نعم، للمكان فسحته، وله دهاؤه وسذاجته، أيضا.
الطاهر لبيب  أستاذ علم الاجتماع- تونس
التعليقات