السؤال الرابع: سؤال المستحيلات - الطاهر لبيب - بوابة الشروق
الأربعاء 23 أكتوبر 2024 9:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

السؤال الرابع: سؤال المستحيلات

نشر فى : الجمعة 24 يونيو 2011 - 9:52 ص | آخر تحديث : الجمعة 24 يونيو 2011 - 9:52 ص
مثلما يتوالد الممكن، تتوالد «المستحيلات»: يتوالد الممكن لأن ما ينجزه يُكسبه الإرادة والقدرة على إنجاز ما هو أبعد منه.

ولأنه كذلك فهو بقدر ما يتقدّم تكثر وتتنوّع قوى الحدّ من مدّه.

أهم هذه القوى ليس فى ما ظهر وخفى من مقاومات (يبالغ البعض فى تسميتها «ثورة مضادة») وإنما فى «الموضوعى»، عندما يعلن القائمون فيه وعليه «ضروراتِه»: عندما تظهر ــ وقد ظهرت ــ مقولات الصبر والحكمة والتعقّل وطلب المستطاع، يساندها التخويف من التسيّب والفوضى والارتداد. تطرد الثورة خوفا وتبعث غيره. ليس من هذا بدّ. ما «يستحيل» (إنجازه) يسمى «إمكانات» (محدودة)، وهذا ليس مجرد مفارقة لغويّة.

وإذا كان هناك ما يُصبر عنه ويُتعقّل فيه فإن ما سيضيق به المستطاعُ هو المطلب الاجتماعى، لأنه الأكثر إلحاحا، ولأنه الأكثر إفرازا للتناقضات الاجتماعيّة وللمواجهات بين المصالح، ولأنه، تبعا لهذا، أقوى ما يعرّض ثورة للمطبات: «مستحيلات» المطلب الاجتماعى انفجاريّة، ومن دون تفكيكها لن يعرف طالبو «الكرامة» ما يفعلون بالحرية غير أن يستظلوا بها، فوق رءوسهم.

لا خصوصيّة فى هذا. هناك تقاطعات بين مسارات الثورات: فى مرحلة مّا يتوقف التحرك الشعبى، ميدانيا، وتبدأ وساطة النخب: يضع «الشعبُ» حزمةَ مطالبه بين أيدى «ممثّليه». يتغيّر إيقاع الزمن. يبدأ التفاوض «الرسمى»، باعتبار أنّ المطالب لا تتحوّل من القوّة إلى الفعل إلّا بالتدبير، وأنّ للتدبير أجلا لا يحْسبه الثائرون وقنواتٍ وآليات لا يعرفونها: هم لا وقت لهم لاستقراء التاريخ وعلوم السياسة، ولا للنظر فى انتقال الاقتصاد إلى اقتصاد سياسىّ، ولا وقت عندهم للتمييز بين ما يحصل بمجرّد الحدث، وما لا يحصل إلّا بالتخطيط.

ومهما كان استعجالُهم لنتائج ثورتهم، فهذا لا يُعفيهم، كما جرت به عادةُ الثورات، من قبول «التريّث»: يضغطون، يتابعون، يراقبون، فى مرحلةٍ أولى يطغى الإحساس فيها بالمبادرة والفعل المؤثّر فى الأحداث، مرحلةٍ لا يزال فيها اليقين بأنّ «من بدأ الثورة هو من يحدّد مصيرها». فى مرحلةٍ ثانية، ينتظرون نتائجَ التدبير. قد يضيق الصّبر القلقُ بالتدبير، فتظهر ــ وقد ظهرت ــ ردود التشكيك، إلى حد النفى: «الثورة لم تقع». فى مرحلةٍ ثالثة، تتسع الوساطةُ وتتفرّع فتحوّلهم، كما فى المسرح، إلى ملقّنِين أو متفرّجين. فى مرحلةٍ لاحقة، أغلب الأحيان، يحسّون بأنّ مطالبهم حُوّلتْ، عُدّلتْ، شُوَّهت أو ضاعت، يحسّون بأنّ آليّات السياسة حاصرت ممكنَ مطالِبهم باستحالاتِ واقعٍ تسعى، باسمهم، إلى التحكّم فيه. يرون، عندئذٍ، كيف تستقلّ أفكارهم عنهم، بل كيف تتنكّر لهم، فلا يعرفونها. بعد أن كانوا يجادلون فيمن يحكمهم يبحثون عمّا بقىَ، فى الحكم، من أفكارهم.

هكذا يصطدم الممكن الثورى، نهايةَ المطاف، بالشرعية التى أنتجها: هو ينتج سلطة عليها أن تُقنع، أوّلا، بأنّها سلطةٌ.

هذا من طبائع الحكم، فلا علاقة له بالنوايا، ولا تغيّر الدساتير منه ولا القوانين، إلاّ فى حدود الاحتجاج عليه. هكذا تكون العودة إلى السؤال القديم: تغيير من الداخل أم ثورة جديدة؟

ثورات العرب الجارية هى أولى ثوراتهم ذات المد الشعبى الاجتماعى الجوّانى. قبلها، كانت ثورات تحريريّة، ضد الخارجى، وبزعامات كاريزميّة شهيرة: عرابى، والخطابى، والمختار، وعبد القادر، والقسام، والأطرش، وبعدهم ثوراتُ جيلٍ ممن تزعّموا وحرّروا وحكموا. لا هذه الثورات ولا تلك هى الأولى فى التاريخ.

هناك ثورات سبقتها، وفيها دروس لا تُغنى عنها «الخصوصيات»: من دروسها أنها، طال الزمن بها أم قصر، أكلت أقرب أولادها إليها، قبل أن يأكلها أخلافُهم، والأولاد بشرٌ وأفكار وطموحات ومطالب بعيدة. من دروسها أنه بأحجار ما هدّم الشعبُ قد تُبنى سجونُه. إلى هذا نبّه أولاد ثورة كبرى: الشاعر بول فاليرى رأى أن «الثورة تنجز، فى يومين، عمل مائة سنة، وتخسر، فى سنتين، إنجاز خمسة قرون». الفيلسوف رينان أكثر منه إنذارا: «الحكومة التى تنقذ شعبها من خطر كبير تجعله يدفع ثمن ذلك باهظا، فى وقت لاحق». أُضيف أن «النظام الجديد»، يعرّض، عالميا ومحليا، ثورات العرب إلى أن تتآكل باكرا.

الثورة بخواتيمها، ودون الخواتيم محطاتٌ ماكرةٌ. التذكير بهذا تذكيرٌ بالمفروغ منه، ولكنه ــ وإن جدّد الفرح بالمكتسَب ــ يجدّد الخوف من كوارث العجز: عجزُ مجتمعٍ على ثورته حجّةٌ عليه، فى تبرير تراجعه، وعلى غيره، فى تبرير إيقاف تقدمه.
الطاهر لبيب  أستاذ علم الاجتماع- تونس
التعليقات