الحياة مع الاستدانة وبعدها... مرة ثالثة - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الأحد 8 سبتمبر 2024 3:06 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحياة مع الاستدانة وبعدها... مرة ثالثة

نشر فى : الأربعاء 10 يوليه 2024 - 6:20 م | آخر تحديث : الأربعاء 10 يوليه 2024 - 6:20 م

على الرغم من فداحة خسائر البلدان النامية جرَّاء أزمة الديون، فلا تجد للأمر الاهتمام المستحق، مقارنة بأزمات سابقة عصفت بفرص التنمية، كما حدث على مدار عقود سابقة، كأزمات الديون الإفريقية واللاتينية فى السبعينيات والثمانينيات، ثم أزمة الأسواق الآسيوية الناشئة فى تسعينيات القرن الماضى. ففوائد الديون عام 2024 تجاوزت تكاليفها نصف إيرادات الموازنات العامة للبلدان المدينة، مرتفعة بحدة عن متوسطات السنوات السابقة على عام 2020.

يذكرنا تقرير حديث لـ«أونكتاد» بأن الدول المنتصرة فى الحرب العالمية الثانية وضعت حدا أقصى على ألمانيا الخاسرة لخدمة ديونها الخارجية، مقداره 5 فى المائة فقط من إجمالى حصيلة صادراتها، حتى لا يعيقوا إعادة البناء والتعافى من آثار الحرب. أما اليوم فالبلدان الأقل دخلا تدفع 23 فى المائة من إيرادات صادراتها، وتنفق البلدان ذات الدخل المتوسط المنخفض 13 فى المائة. لقد اكترثت قيادات الدول المنتصرة التى كانت أكثر وعيا بمسببات الحرب وويلاتها، وتعلمت من درس اتفاقية فرساى التى فرضت أعباءً باهظة على ألمانيا المهزومة فى الحرب العالمية الأولى، بما سبب لها كوارث اقتصادية من غلاء وبطالة بتداعيات سياسية صعدت باليمين النازى الذى دفع بألمانيا للحرب. وللمؤرخ جون هيرست فى كتابه المعنون «أوروبا... تاريخ وجيز» شرح يسير يربط بين اتفاقية السلام والديون واندلاع الحرب.

ولكن فى عالمنا اليوم، هناك من يملك فى مراكز القوة إلحاق الضرر بغيره، حمقا ورعونة، ولا يلتفت لتداعيات مساوئ السياسات البائسة على البلدان النامية، إلا عندما يطرق أبوابه المهاجرون اضطرارا. هذا، علما بأن بلدان الجنوب خاسرة بهجرة بعض من أفضل عقولها ومن أكثر شبابها لياقة وقدرة. فعلى الرغم من تعالى الأصوات فى الدول المستقبلة للمهاجرين، خشية على نظمها المعمول بها للرفاهية الاجتماعية، وحرصا على عاداتها الاجتماعية والثقافية، فإن إسهام العقول والعمالة المهاجرة فى نمو وتقدم بلدان الشمال تدعمه إحصاءات البنك الدولى عن الهجرة والتنمية.

إذا أراد البعض أن يلقى بعبء أزمة الديون بالكامل على المشاجب الخارجية؛ من جائحة وحروب وصراعات جيوسياسية وتغيرات للمناخ، وغيرها من صدمات خارجية، فستنوء هذه المشاجب بحملها. فمسئولية الصدمات الخارجية عن أزمة الديون قائمة حقا، ولكنها ليست وحدها المسئولة عن الأزمة. كانت الصدمات الخارجية المذكورة «منشئة» لبعض الديون للتعامل معها؛ فكثير من البلدان النامية اقترض للتعامل مع تداعيات الجائحة على سبيل المثال. ولكن هذه الصدمات كانت «كاشفة» أيضا لما ارتكبته بلدان نامية من إفراط فى الاستدانة، بانتهاز، دون تحوط لانخفاض أسعار الفائدة التى أغرت بمزيد من الاقتراض.

وقد حذَّرتُ من مخاطر ما يحدث اليوم، فى مقالات نشرتها «الشرق الأوسط» الغراء فى يونيو (حزيران) عام 2018، ذكرت فيها: «... تراكمت الديون العامة، بما فى ذلك القروض الخارجية، بما يجعل الدول المستدينة عرضة لمخاطر تقلبات أسعار الفائدة والتغيرات المفاجئة فى أسعار صرف العملات... فتجد التدفقات المالية إلى الدول النامية وكثيرا من الأسواق الناشئة بين تقلب وتراجع، ومد وجزر سريعين للأموال الساخنة والهائمة؛ فتربك السياسات النقدية، وتزيد من ظروف الغموض والشك حول توجهات أسعار الفائدة والصرف. تستوجب هذه التغيرات أن تتخذ الإدارة الاقتصادية التدابير اللازمة للتوقى من مخاطر الصدمات قصيرة الأجل».

كما جاءت الصدمات الخارجية «معجِّلة» بأزمات للديون كانت ستقع حتما، منتظرة انفجارها الموقوت بنهاية عهد الاقتراض الرخيص، بما عُرف بظاهرة «أسعار فائدة أقل لفترة أطول»، ثم انهمرت الأموال بتيسير نقدى غير مسبوق للتعامل مع الجائحة ومخاوف الركود، ثم انفلت التضخم ومعه الغلاء غير المسبوق منذ 4 عقود، فكان من اللازم فى النهاية، بعد تردد غير حميد، أن ترفع البنوك المركزية، وفى مقدمتها البنك الفيدرالى، أسعار الفائدة مرات متعددة متوالية، دون اكتراث لآثارها السلبية على اقتصادات البلدان النامية، حتى صارت التدفقات المالية إليها سالبة، كما انحسر عنها الاستثمار الأجنبى المباشر.

ثم ها هى البلدان النامية تُبشر اليوم بأمرين: الأول بظاهرة «أسعار فائدة أعلى لفترة أطول»، بما يعنى أن تكلفة الاقتراض لن تعود رخيصة كما كانت قبل الصدمات الخارجية بآثارها المنشئة والكاشفة والمعجِّلة للأزمات. وعلى الرغم من ذلك فهناك من بلدان عالم الجنوب من يُدعى للولوج لأسواق الديون مرة أخرى، فتجدها تتحين الفرص، فى تلهف المدمن غير العابئ إلا بجرعة تلهيه عن أزمته. ويظن البعض أن فى الديون علاجا، وهى أصل الداء. فإذا كانت هناك حاجة لتنمية اقترضوا، وإذا أرادوا التصدى لتغيرات المناخ اقترضوا، وإذا حاولوا سداد مديونية قديمة اقترضوا. ولنا معا فى ذلك جولة فى مقال قادم، فمع توجه أسعار الفائدة العالمية للانخفاض، بعد أن تستقر معدلات التضخم، ينبغى اتباع نهج بديل لتمويل النمو والتنمية.

التعليقات