بعد شهور من التمهيد الحكومى عن ضرورة الإصلاح الاقتصادى الذى يتطلب إجراءات صعبة، جاء الإعلان عن تعويم الجنيه (الخميس 3 نوفمبر) ثم أعقبه مساء نفس اليوم الإعلان عن زيادة أسعار الوقود، وبالطبع الكل يعرف أن هذه القرارات تنفيذا لشروط صندوق النقد الدولى للحصول على قرض 12 مليار دولار.
وبالتالى لا مجال لمناقشة مدى صحة هذا التوجه ولا رفض الطريقة التى أخرجت بها الدولة هذه القرارات وكيف أنها عملت على إرباك السوق بأسعار مرتفعة غير واقعية للدولار وعملت على نشر ذلك إعلاميا حتى يتقبل المواطنون هذه الأسعار ثم تقوم بتعويم الجنيه بأقل مما كان عليه سعر الدولار فى السوق السوداء ولكنه أعلى مما كان عليه فى البنوك، وهو ما أسميه (إدارة الاقتصاد بالخداع). وإذا تذكرنا أن البنك المركزى كان قد خفض قيمة الجنيه منذ شهور قليلة فى مارس الماضى بنسبة 14% ثم خفضه حاليا 48% فنكون أمام حقيقة أن الجنيه قد خسر 62% من قيمته فى شهور قليلة.
***
ولأننا قد أصبحنا أمام واقع التعويم للجنيه، ورغم رفضنا لتلك السياسة وأنها مجرد مقامرة من الدولة بكل مؤسساتها، فعلينا التنبيه إلى أخطاء الممارسات والتى ستؤدى إلى غرق الاقتصاد وليس تعويمه، ومن تلك الأخطاء:
• خطأ المبالغة فى فوائد هذه القرارات وأنها فى صالح الفقراء، وأن البورصة قد ربحت مليارات بعد التعويم، فمن يراجع ما حدث بعد تخفيض الجنيه فى المرات السابقة وخاصة فى مارس الماضى سيجد تكرارا لكل ما يقال، ثم بعد أسابيع تغير الحال للعكس مما يؤدى إلى الإحباط الشعبى وإلى المزيد من انهيار العملة وزيادة التضخم والمزيد من التعقيد للأزمة الاقتصادية.
• خطأ القول إن الدولار مثله مثل أى سلعة يتحدد سعره بالعرض والطلب، فالدولار مثله مثل أى عملة مقياس للقيمة ووسيط للمبادلة ونُعلِم طلابنا أن الطلب على العملات الأجنبية هو طلب مشتق بمعنى أننا لا نطلب الدولار إلا للشراء من الخارج فإذا تحول الدولار إلى سلعة كما يقولون للمتاجرة والمضاربة فهذه علامة على فشل اقتصادى، وبالتالى فسعر الدولار يتحدد بناء على الطلب المتزايد للاستيراد من الخارج وهذه هى أساس المشكلة.
• خطأ ما أعلنه البنك المركزى من ترك تقدير سعر الصرف للبنوك وحريتها فى تحديد السعر، فلابد من وسيلة لتوافق الجهاز المصرفى على سعر واحد للصرف خلال فترة ليست بالقليلة، وإلا سينتظر من معه دولارات لتعطيش السوق والمنافسة بين البنوك ليرتفع السعر ويكونوا قد استبدلوا السوق السوداء بمثلها فى البنوك (خلال يومين فقط من التعويم وصل سعر بيع الدولار فى أحد البنوك إلى 16 جنيها).
• خطأ القول إن السوق حرة فى البيع والشراء، ثم يذهب مواطن إلى البنك فيجده يشترى دولاراته فقط ولكنه لا يبيع لمن يريد دولارات، وبالطبع لا يمكن فتح الباب على مصراعيه لشراء العملات الأجنبية وخاصة فى بداية التطبيق، وبالتالى لابد من الإعلان عن ذلك وليس القول بحرية البيع والشراء ثم يجد المواطن عكس ذلك.
• خطأ أن تتوارى الحكومة خلف الغرف التجارية التى أعلنت وقف شراء الدولار لمدة أسبوعين ووقف استيراد نوعيات محددة من السلع لمدة ثلاثة شهور، بل لابد من سياسة واضحة ومعلنة لخفض الاستيراد ووضع قوائم لما يتم استيراده ومنع دخول غير ما فى القوائم لمنع التحايل بالاستيراد ودفع المقابل فى الخارج.
• عدم التسرع فى طرح شركات القطاع العام للبيع لأنها ستباع بأقل من قيمتها الحقيقية وفقا لأسعار الجنيه المتدنية، فمن الخطأ بيع هذه الشركات من أجل حفنة من الدولارات التى زادت قيمتها بالنسبة لعملتنا لأخطاء سياسات الحكومة.
• القول بأن التعويم سيقضى على السوق السوداء يرتبط بقدرة البنوك على توفير الدولارات للعملاء، فإذا لم يحدث ذلك فسيكون فى ذلك عودة لنمو السوق السوداء وخاصة مع السماح بحرية الإيداع للعملات الأجنبية دون السؤال عن المصدر، وهو ما يتطلب ضرورة خفض الطلب على العملات الأجنبية من خلال خفض الواردات بقرار حكومى واضح.
• القول بأن التعويم سيؤدى إلى تدفق الاستثمارات الأجنبية قول سمعناه كثيرا مع كل خفض لقيمة الجنيه ولم يحدث، فالمهم للمستثمر هو سعر تحويل أرباحه للخارج، فإذا كان الجنيه سيستمر فى الانهيار فإن قيمة أرباحه مقومة بالدولار ستقل وبالتالى لن يكون هذا حافزا له للاستثمار فى مصر.
• خطأ التغنى بأن سعر العملات الأجنبية سيتحدد وفقا للعرض والطلب، فالكل يعرف أنه فى الأجل القصير لن تنتعش السياحة ولن تزيد الصادرات وبالتالى مع انخفاض العرض من العملات الأجنبية قد نصل إلى مرحلة الانهيار الكامل للجنيه وقد نكرر التجربة اللبنانية حيث أصبح الدولار هو عملة التبادل الأساسية.
***
إن ما فعلته الحكومة بتعويم الجنيه هو نوع من المقامرة التى لم تراع باقى الأوراق التى تؤثر على حركة الاقتصاد ولم تأخذ فى اعتبارها الأثر الاجتماعى لما فعلته. ولكننا لا نملك بعد أن فرضت الحكومة ما تريد إلا أن نحذر من الأخطاء، عل ذلك يؤدى إلى خفض المعاناة على المواطنين الفقراء ومتوسطى الدخل الذين ستطحنهم هذه القرارات من التعويم وزيادة الأسعار والتى لها حديث آخر.