شهدنا على مدى السنوات السابقة منذ اتفاق باريس للمناخ لعام 2015 تهاويا لخط الدفاع الأول، المتمثل فى تخفيض الانبعاثات الضارة فما زال العالم بعيدا عن تحقيق أهداف الحياد الكربونى، بما يهدد الهدف العلمى للحفاظ على حرارة كوكب الأرض تحت 1.5 درجة مئوية فوق متوسطاتها إبان الثورة الصناعية الأولى. وتعرضت دفاعات الخط الأول لمهلكات مستجدة بعدما لجأت دول أوروبية لطاقة مستمدة من حرق الفحم بعدما حُجب عنها الغاز الروسى الأقل تلويثا بعد أزمة الحرب فى أوكرانيا وما تبعها من عقوبات. كما لم تأتِ الإمدادات اللازمة لتدعيم بنية خط الدفاع الثانى المعدّ للتكيف مع الآثار الضارة للتغير المناخى. فغاب عنه التمويل للمشروعات الأساسية ضد التصحر وتآكل الشواطئ واختفت مساحات شاسعة من الغابات حرقا واستغلالا، وتراجعت نظم تطوير نظم الرى وإدارة المياه وحماية الزراعات فى الريف وصيانة المرافق فى الحضر.
وإذا كان تدعيم خط الدفاع الثانى للتكيف قد تراجع بسبب الإفراط فى التفاؤل بأن العالم سيمكنه تدعيم صمود خط الدفاع الأول بتخفيف الانبعاثات الضارة وهو ما لم يحدث، فإن خط الدفاع الثالث والأخير المعدّ للتعامل مع الخسائر والأضرار صار خطّا وهميا بتجاهل مستمر لمناشدة أهل البلدان النامية، خصوصا قاطنى الجزر المهددة بالفناء والتآكل بطغيان البحار والمحيطات على ما تبقى من يابستها، رغم نصوص أُدرجت فى اتفاق باريس ومبادرات بآليات وشبكات وصناديق رمزية للتكافل مع مطالب المضارين.
وفى ظل أجواء جيوسياسية معقَّدة، هى الأسوأ منذ الحرب العالمية الثانية، تضافرت معها مربكات صاحبت وأعقبت جائحة «كورونا» والحرب الأوكرانية، وتداعيات اقتصادية للموجة الرابعة الخطيرة للديون الخارجية ومعاناة دول متقدمة ونامية من آثار التضخم أو البطالة أو بمزيج الركود التضخمى، أتت قمة شرم الشيخ لتمهد للعالم طريقا للعودة إلى الرشد غير متناسية ما يعانيه من عجز فى الثقة وفائض فى الأزمات.
وقد أحسنت شرم الشيخ الإعداد والتنظيم المتميز لأكبر حدث سياسى وتنموى سنوى للأمم المتحدة بدأ بقمة شهدها قادة الدول بمشاركة فى جلسة عامة موسعة تناولت أولويات العمل المناخى، أعقبتها جلسات على مدى يومين حول قضايا حيوية كالانتقال العادل والتمويل وطاقة الهيدروجين الأخضر والأمن الغذائى وغيرها من موضوعات، تزامنت معها حوارات ونقاشات لمبادرات دولية وإقليمية بحضور المنظمات والمؤسسات المالية الدولية، وبحضور كثيف من تجمعات القطاع الخاص وشركاته وشركاء المجتمع المدنى بمنظماته غير الحكومية بأطيافها ومؤسسات البحث العلمى وبوجود إعلامى من ربوع الأرض كافة. وقد تزينت شرم الشيخ بما جدد شبابها ودعم قدرتها لتصبح مقصدا دائما للمؤتمرات والملتقيات الدولية الكبرى ولتسطع فى خريطة المقاصد السياحية الأكثر تميزا بما حباها الله من طبيعة خلابة وما أُهِّلت له باستعدادات قلَّ أن تُضاهَى لحُسن الضيافة.
وما ميَّز الإعداد لقمة المناخ من الناحية الموضوعية هو هذا النهج الشامل الذى نشد القضاء على الجزر المنعزلة بإدراجها على أجندة العمل الرسمية موضوعات حيوية ذات علاقة وطيدة بتغيرات المناخ مثل الطاقة ونزع الكربون والمياه والزراعة والغذاء والتنوع البيئى والمحيطات والمدن والتنمية الحضرية والنقل، وبحث سبل التمويل، واستطلاع المستجدات فى دور المرأة والشباب، والاحتفاء بإسهام العلم والابتكار والبحث والتطوير.
واستكملت هذه الموضوعات مناقشات حيوية فى إطار مشاركة مراكش للأطراف غير الحكومية. واشتعلت القاعة الخضراء نشاطا بفاعليات نافست القاعة الزرقاء وبمعارض وندوات وورش عمل شديدة الحيوية أمَّها الشباب والباحثون من كل حدب وصوب فى مختلف التخصصات؛ فهذا يعرض نتائج بحث علمى مشترك نشرته أرقى المجلات العلمية، وذاك يزهو بجائزة دولية تقديرا لابتكاره، وآخر يعرض مجالات التوسع فى مشروعه داخل بلاده وخارجها... ولم تفوّت الفرصةَ الجهاتُ الحكومية والمؤسسات الصناعية والتجارية والكيانات الزراعية والبنوك والجمعيات الأهلية والمراكز البحثية لتعرض مستجدات أعمالها داعية للمشاركة بالاستثمار أو بالتمويل أو سبل التعاون الأخرى.
وما جذب انتباهى حقا هو أن مستضعفى الأزمنة السابقة من الشباب والمرأة من البلدان النامية قد أتوا بحلول عملية من بيئاتهم يعرضونها لتبادل المعارف والمشاركة العملية بعد عهد من الاكتفاء بالشكوى من مظالم قاسية على الحياة والمعيشة معا. ما زال البعض لا يفرق بين ما يجب أن يقال فى ساحات التظاهر بفاعلياتها ومضامينها وأساليبها وبين جلسات النقاش لمستجدات العلم والسياسات العامة، ولكن هذا متعارف عليه عالميا فى مثل هذه التجمعات التى يتعمد البعض فيها الإبهار طمعا فى جذب الانتباه وإن لم يأتِ بجديد أو بما قد يفيد، ولله فى خلقه شئون. وقد أسعدنى كغيرى إسهامات أطفال استضافهم رواد المناخ من الدومينيكان وكولومبيا وأرمينيا وغانا وأستراليا ومصر، وكانت وراء مشاركة هؤلاء الأطفال قصص نجاح معبّرة عن تفاعلهم مع قضايا المناخ، فمنهم من ألَّف كتابا تمّت ترجمته للتعريف بخطورة تغيرات المناخ، ومنهم من قام بتطوير تطبيقات للهاتف، ومنهم من يقدم برامج إذاعية وتلفزيونية، وهذا كله مطلوب وأكثر فى عالم ما زال نصف سكانه إن سُئلوا جاوب نصفهم بعدم إدراكهم لخطورة تغير المناخ وسبل التعامل معه على النحو الذى أفصح عنه استطلاع للرأى قامت به مؤسسة «جالوب» الشهيرة، كما أتى بمثل ذلك من نتائج استطلاعات أخرى جرت فى بلدان متقدمة ونامية. بما يذكّرنا بأن حرب المناخ كأى حرب مشروعة يحتاج النصر فيها لوعى وإرادة، فما كان النصر يوما حليفا لمغيَّب أو خوَّار.
ولكن أصحاب الإرادة والوعى لن يطولوا النصر المأمول فى حرب المناخ إلا بعلم يتفوقون به ومال يدعم خطوط دفاعهم الثلاثة المذكورة فى صدر المقال. فمن دون العلم والمال لن تتيسر سبل تطوير خط الدفاع الأول بتخفيف الانبعاثات الضارة بالاستثمار فى الطاقة الجديدة والمتجددة من الرياح والشمس والهيدروجين الأخضر. ومن دون العلم والمال لن تُستنقذ البيئة والطبيعة والأصول من فتك المناخ بخط الدفاع الثانى الذى يحتاج أيضا لنظام متكامل للإنذار المبكر كالذى يدعو إليه الأمين العام للأمم المتحدة بما يتطلبه من تكلفة. كما ستتطلب أجندة شرم الشيخ التى أعلنتها الرئاسة المصرية لقمة المناخ بمحاور عملها المكلفة حقا ولكن بعائد يبرر التكلفة المقدرة. ومن دون العلم والمال ستظل قضية الأضرار والخسائر هائمة بلا مسار يُنصف المضارين بأدلة وبراهين وبتعويض للخاسرين، وهو ما تجدّ قمة شرم الشيخ فى إيجاد حل ناجع له فى الساعات القادمة.
ولعلّى فى هذا الصدد أختم بمقترح محدد أجده متوافقا مع ما دعت إليه مبادرة بريدج تاون، عاصمة بربادوس، والتى دعت إليها ميا موتلى، رئيسة حكومة بربادوس، ويتوافق هذا المقترح أيضا مع ما دعا إليه الاقتصادى الشهير جيفرى ساكس، من الدفع بمعجل لتحقيق التنمية المستدامة قبل حلول عام 2030، كما يستند هذا المقترح لتقرير تمويل العمل المناخى والتنموى الذى أعدته مجموعة عمل برئاسة مشتركة للاقتصاديين فيرا سونج وى ونيك ستيرن. والمقترح ببساطة هو أن تقوم جميع المؤسسات التنموية المالية الدولية بتمويل مشروعات العمل المناخى وفقا لنظام ميسَّر طويل الأجل يشمل جميع الدول منخفضة الدخل والدول ذات الدخل المتوسط المنخفض دون استثناء، وذلك بفترة سماح لا تقل عن عشر سنوات وفترة سداد لا تقل عن عشرين سنة وبتكلفة لا تزيد على 1% تشمل المصاريف الإدارية ومقابل للمساعدات الفنية وبناء القدرات فى البلدان النامية.
إن هذا المقترح أمسى ضرورة خصوصا مع تقاعس أغلب البلدان المتقدمة عن الالتزام بتعهدات كوبنهاجن واتفاق باريس لتقديم عون مالى للبلدان النامية لا يقل عن 100 مليار دولار سنويا، وعدم قدرة القطاع الخاص منفردا على سد فجوة تمويل مشروعات التخفيف، إذ يحتاج بعضها لمساندة المخاطر وإدارتها من مؤسسات التنمية الدولية. كما أن إسهام الاستثمارات الخاصة لا يتجاوز % من التمويل الكلّى الموجّه لمشروعات التكيف.
إذا طرأ تقدم ملموس فى هذا المقترح العملى للتمويل والتعاون الفنى الدولى، مع توفر الإرادة المشتركة والوعى العام الملمّ بخطورة الوضع الراهن لمساندة التوصيات العملية لقمة شرم الشيخ، سيكون العالم فى بداية نهج النصر المأمول فى حرب المناخ.