الانفجار العنصرى.. الطريق إلى الجحيم - مواقع عربية - بوابة الشروق
الإثنين 30 ديسمبر 2024 7:08 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الانفجار العنصرى.. الطريق إلى الجحيم

نشر فى : الأربعاء 17 يونيو 2020 - 10:25 م | آخر تحديث : الأربعاء 17 يونيو 2020 - 10:25 م

نشر موقع 180 مقالا للكاتب نصرى الصايغ... جاء فيه ما يلى.
كيف نعيش معا؟ ثبت أن لا جواب، حتى الآن. الإنسانية، بكل فلسفاتها وأديانها وعقائدها وأنظمتها، لم تجترح جوابا عن هذا السؤال؟
ظل الإنسان يقاس بلا إنسانيته. بلونه، بدينه، بمذهبه، بإثنيته، بتاريخه، بعرقه، بمكانته الاجتماعية والاقتصادية، بقوميته. ظل هذا الجهل مؤلما ومجرما، لأنه كبد الإنسانية حروبا وإلغاء واقصاء. ما يحدث اليوم فى الولايات المتحدة الأمريكية، من عنف عنصرى ليس فريدا أو مفاجئا. فالعنف، يكشف هنا وهناك وأينما كان، عن الوجه الحقيقى لصراع «طبقات» اقتصادى، والصراعات لا تمت إلى التمييز الطبقى بصلة، بل إلى ذلك الإنكار وذاك الاحتقار الذى تكنه «ثقافات». تحتضن أصولا وعادات وتقاليد وإيمانات وأشكالا وأعراقا، ذلك أن مقياس «الإنسانية» ليس واحدا. فهناك قيم تسبغ على مجتمعات وأعراق و… فتحظى بانتسابها إلى الحضارة، فيما تنوء، داخل هذه المجتمعات وخارجها بالتمييز الدائم، مهما كانت اللغة الأنيقة، لاغية ومخفية للتمايز والتمييز.
ظنت عقول كثيرة معاصرة، أن العولمة بنت الحداثة، قد اختصرت وألغت الفروقات كلها والقيم «البائدة» كلها، مؤذنة بانطلاق ثقافة، أو بالأحرى «لا ثقافة»، غير مبالية بالتمايز.
العالم اليوم فى أوج العولمة، خسر معركته الإنسانية تماما. إننا لا نعيش فى عصر الأنوار المجيد، بل فى عصر الانحطاط والنكوص.
***
لنعد إلى البداية: سادت التفاؤلية مع إرهاصات حضور ثقافة «كلية» تحتضن قيما جديدة: حقوق الإنسان، الحريات الشخصية والسياسية، والثقافة الجامعية، والديمقراطية. العولمة تعاطت مع هذه الحقوق كسلع قابلة للتصدير أو الكساد أو الإجحاف. العولمة سوق تصطدم فيه المصالح ومطامع الأسواق وجنوحات الإعلام، إضافة إلى التبشير الدائم بالسلع. هذه العولمة السائدة قادت ثقافة الأنوار إلى الاضمحلال. لقد ماتت ثقافات لأنها دمرت بوسائل العولمة الكاسحة.
والثقافة فى العالم، ثقافات، لها خصوصيتها المزمنة، وهذه تعصى على الإمحاء. وإذا ما تعرضت لاعتداء، فى ظرف ما، لجأت فى الدفاع عن نفسها بالاستقواء، بمبدأ الهوية والانتماء. مع التأكيد، على أن العولمة، نقيض لمبدأ الهوية، الذى يعنى التميز عن الآخر بالثقافة، أو الدين، أو الطائفة،.. إلخ. لا وجود، فى هذه الدنيا، قادر على محو الهوية، بصيغها المختلفة. العولمة أنزلت هذه الانتماءات إلى درجة الصفر، عبر إعلانها مبدأ المنفعة والربح واللذة والبحبوحة، أو عبر ربط هذه الجماعات المتعددة بالأسواق التى تتدفق عبرها سلع تصلح لكل الهويات.
العولمة، دمرت كل قيمة ثقافية لشعوب وأمم. وتم تعطيل هذه القيم، من دون أن تلغيها. وللتدقيق فى هذا الشأن، نراجع ما آلت إليه قيمة حقوق الإنسان مثلا، أو للديموقراطية أيضا. لقد نكبت هذه القيم باجتياحات العولمة، بالعنف دائما. والعنف ليس حربا بل بفعل إبادة كل خصوصية، من دون بلوغ حقها فى التمتع بمنتجات الحداثة وثقافتها. «إن عولمة التبادل تضع حدا لكلية القيم»، وفق ما استنتجه جان بودريار. إنه انتصار الفكر الأوحد على الفكر الكلى. فالعولمة هى أولا سوق، لا ثقافة. اختلاط ما يتم تبادله من بضائع، وركض لاهث خلف المال، من أجل المزيد منه، ما يشكل بالطبيعة، آلية فرز طبقى مذهلة، فعدد البالغى الثراء، قليل ونادر جدا، إذا قيس بأعداد المليارات التى تعيش تحت خط الفقر والبؤس. وهذه لا ملجأ لها، سوى التمسك بماضيها وثقافتها وأصولها وأديانها، لأنها البديل عن الكفاية الاقتصادية. الهوية لا تشبع جائعا، ولكنها تجعله يعيش فى توازن مع ثقافته ومعتقداته. غير آبه بما تدره شبكات الإعلام، من أكاذيب جميلة.
لقد تعولمت كل «القيم الحداثية». صارت شيئا. باتت سلعة يروج لها، من دون تجذرها فى الواقع السياسى والاجتماعى. الديموقراطية وحقوق الإنسان وكرامة الفرد، أصبحت جزءا من السلع التى تشبه رءوس الأموال أو أنابيب النفط. والغريب، أنه كلما اتسعت رقعة الأسواق فى القارات كلها، كلما ترافق ذلك مع تفكك المجتمعات والمتحدات. العولمة تجمع المال والسلع، لكنها تفرق بين مغانم المركز الأصلى للسلع، وبين من يراها ولا يمتلكها. فأين هى الديموقراطية اليوم، فى الدول المظلومة، بل أينها فى الدول الظالمة. إن ربط الشبكات فى ما بينها عالميا يترافق حتما مع تفكيك البشرية إلى جزيئياتها. بيد أن السمة الأساسية للعولمة هى استبعاد من لا حظ له، وتهميش من كان يتمتع بحظ الفتات.
إن الإنسانية إذا نظرت إلى وجهها بالمرآة، تبدو وكأنها خليط مشوش من أفكار نبيلة ووقائع فى غاية الشر. الكلمات لم تعد تنفع. العقل يتراجع. الإيمان والعقائد القديمة، تتقدم، وصورة الإنسانية تشى بأن العنف، هو المنتج الوحيد الذى يضاهى منتجات العولمة السوقية. لقد انتصرت العولمة، عاثت فى الدنيا فسادا. لقد ألغت كل الفروقات وكل القيم، مؤذنة بانطلاق «لا ثقافة» غير مبالية كليا بالتمايز. والعنف دائم وشامل وعام. فهناك العنف العسكرى والحربى، الذى تقوده الولايات المتحدة الأميركية وشقيقاتها فى معسكر العولمة، والعنف الذى يقوم بـ«التدمير الهادئ». والتدمير الهادئ، جينى، تواصلى. وهو عنف التسوية والتعايش المفروض مثل جراحة تجميلية للوجه الاجتماعى. عنف الشفافية والوداعة الذى يهدف عبر الوقاية والانتظام النفسى والإعلامى إلى القضاء بقوة على جذور الشر وعلى كل تطرف. عنف نظام يحاصر أية خصوصية. إنه الموت بذاته، لأننا ممنوعون من السلبية وممنوعون من الموت. عنف يمنع عنا المناعة. إنه عنف التذويب وفرض التجانس. ولكن هذه المقامرة أدت بكل سيئاتها، إلى ما هو أسوأ، بحيث أصبح العنف المادى، الذى يتقصد الأجساد والكيانات، موازيا للعنف الصامت الذى يسقط كل ما هو جميل وقيم، وينزله إلى مرتبة الأخطاء، ويعبر عن ذلك بفردانية قاتلة، أو بالعودة إلى ثقافة القطيع المدمرة.
الإرهاب فى جزء منه هو نتيجة العولمة المتوحشة، التى لا تكف عن استعمال القوة أينما كان، من لبنان إلى أفغانستان إلى سوريا والعراق واليمن وليبيا وإيران وأمريكا الجنوبية، وأوروبا التى تنزاح إلى اليمين المتطرف الذى هو مرآة واضحة، لانزياحات العالم كله، باستثناء طبقة المليون ثرى، إلى مطالب عنصرية وطائفية وعرقية.
إن قوة السوق العالمية خلقت ما لا يطاق من سياسات، عبر عنها ببلاغة ووضوح دونالد ترامب. لقد رسم وجه العولمة الحقيقى. المال هو الإله. ولتكن الثقافة السائدة إلى جانبه، هى ثقافة النبذ والإقصاء والاستبعاد التى تولد فى دونيتها عنفا وعنصرية وما لا يقبل.
إن العالم يتقدم مع العولمة إلى موته السيئ. لا موت جميل بعد اليوم.
***
أما بعد وداعا للثقافات المنفتحة. وداعا لمبادئ الثورة الفرنسية، ووداعا لمواثيق الحرية والعدالة وحقوق الإنسان. لقد استعاد المال سلطته المطلقة، وبات العالم جزءا من دكتاتورية العنف.
إنما السؤال الذى يتبادر إلى الذهن، لماذا هذا هكذا؟ لماذا بلغت هذه العولمة هذه الشراسة؟ وهل بإمكان الإنسان أن ينجو من فعل الإلغاء المبرم؟
لا خلاص للبشرية عبر عودتها إلى أصولها. إن الحرية التى فقدها الإنسان المعاصر، أعادته إلى التمسك بأهداب الهوية. والهوية هويات فى كل مجتمع وفى كل دولة. لا وجود لتجانس تام فى أصل الهوية فى أى مجتمع اليوم. حتى فى الدول القوية والمستقوية.
يقف مبدأ الحرية كحائط صد فى وجه الهويات الأصلية. الحرية فتحت الباب أمام مجموعات إثنية وعرقية وطبقية و… لتنتقل من رابط الماضى إلى روابط المجتمع الحديث. كانت الحضارة تنزع إلى تغيير الإنسان عبر نقله من ثقافته البدائية، الدينية والعنصرية والقومية إلخ… ليدخل إلى ميدان الحرية. لكن هذه النقلة خابت كليا، لأن الحرية لا تطعم خبزا أبدا.
حار الفلاسفة كثيرا أمام سؤال الحداثة، من أولا، الحرية أم المساواة أم العدالة؟ لقد تقدمت الحرية كولد يتيم إلى مائدة اللئام، حيث تنفرد طبقة بالحكم والمال والسلطة وسوق العمل. شعر الإنسان «الحر» أنه غير قادر أن يكون مواطنا مساويا للآخرين، بسبب الفروقات المذهلة، بين الحرية والعمل وفوائضه، وبين الحرية والعدالة، التى هى تقيم ميزان المواطنة الحرة عليه.
الإنسان الحر فى نظام العولمة يتمتع بفائق الخسارة. إنه فقير ومعدم. الحرية لا تشبع بطون الجائعين أبدا.
إزاء هذا الوضع للحداثة الشرسة، تاه العالم وفقد خصوصيته. وكان على كل من أصيب بنكبة الحداثة، أن يعود إلى ذاته، إلى قبيلته، إلى شعبه، إلى دينه، لينقب فى ذاكرته لإحياء نسب، إلى ماض أو إلى شخص تاريخى أو مدى عائلى أو انتماء مذهبى، يمنحه شعورا بالقوة أمام همجية العالم الرأسمالى بثقافته وسلعه عليه، لينتزع منه ماله وماضيه وحاضره. أمام هاوية العالم يعبر طريقا خطرا جدا. فكما أن العنف سلاح الأقوياء، كذلك يصير العنف سلاح الضعفاء، ولكنه لا يصيب إلا جاره وابن وطنه. من هنا تأخذ الحروب الأهلية صك براءتها بانتسابها إلى ماض، متعدد الأتباع والاتجاهات.
من يظن نفسه أنه سيد نفسه يقع فى وهم مريع. فحين تتلخص مقولات الحضارة، العلم، العقل، التقدم، الجمهورية، الأخلاق، وغير ذلك من المجردات المكرسة، التى هى فى حال تراجع (على حد قول مارسيل غوشيه) نلحظ أن الإنسان المعاصر يتحمل عواقبها عبر هذا الشكل من العبودية الحديثة… فالإنسان المعاصر يقع ضحية التوهم بأنه سيد نفسه، فى ما هو يلبى رغبات الجمهور الغامضة.
وعليه، فإننا نفهم أن التمسك بالهوية أسقط التمسك بالحرية. فالهوية تعيد الإنسان إلى التقليد، إلى الماضى، إلى الدين، إلى… فينحرف التقليد عن مكانته المرموقة ليصير وسيلة وفكرة فظة وشريرة، وإلى حالة تضغط على الإنسان كى يرتمى فى أحضان انتمائه البدئى، كى لا يظل إنسانا مقموعا ومضغوطا. وتنفيس ذلك يتم بممارسة الشراسة، على من ليس من طينته ومعتقده ودينه.
لبنان هو هكذا. هوياته قاتلة. طوائفه اقصائية ووبائية. هذا ما تشهده الولايات المتحدة اليوم. الحرية بلا مساواة طبقية، بلاهة. الانفجارات التى تحدث فى دول مركبة من اثنيات وعرقيات وأديان، لم تجد صلحها بعد. العولمة قلصت ظل الدولة والقوانين والمؤسسات والسياسات، ورفعت من منسوب التعصب. اليمين الأصولى المتطرف عائد إلى أوروبا. الاتكاء على الهويات بلا حرية وبلا عدالة وبلا سيادة، سيقود المجتمع إلى معاقرة الدم.
إن التعصب هو الحريق. فلنراقب الاشتعال، حيث يحصل، وسيكون كارثيا.

النص الأصلى: هنا

التعليقات