روب أمي بالكرانيش.. ومدام فيرا - شيماء شلبى - بوابة الشروق
الثلاثاء 1 أكتوبر 2024 1:03 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

روب أمي بالكرانيش.. ومدام فيرا

نشر فى : الأحد 19 مارس 2017 - 9:40 م | آخر تحديث : الإثنين 20 مارس 2017 - 11:21 ص

"غيري هدومك.. البسي القميص ده والروب عليه.. واستني هاندهلك بمجرد وصول الدكتور علشان ندخل أوضة الأشعة"..
أعطتني التعلميات ووضعت ما بيدها ومضت.. أغلقت باب الحجرة الموحشة.. مهما كان فخامة التزيين تظل حجرة المستشفى موحشة مرعبة.. طابقة على الصدر.. لا تتسع لروحي المضطربة خوفا.

"روب".. ما أحلى روب والدتي.. ذكريات قفزت من ذاكرتي في محاولة للطمأنة.. للتلاهي.. وللتقليل من توتر الموقف.. وهل هناك ما يمكن أن يسكن التوتر غير هذه الذكريات القريبة البعيدة.. ذكريات الطفولة؟

كانت أمي ترتدي دائما فوق قميص البيت الفضفاض روبا يشع جمالا.. ولكل جلباب أو قميص بيت، روبه الخاص تتناسب ألوانهما وتفصيلتهما وتتناغم.. قماش ناعم اكمام واسعة ودانتيل بالوان زاهية.. دائما هي التي تخيطهم وتفصلهم بيديها .. وكان لي نصيب ان يكون لي روب او اثنين يشبهان اروابها ...كنا كما توأم عندما نرتديهما معا.. ازهي بما ارتديه من عمل يديها ويشبه ماترتديه.

البترون والمازورة وبكرة الخيط، إبر الكوريشيه الطويلة والقصيرة، بكرة الخيط الصوف التي فكت تشابكاتها عبر الالتفاف حول معصمي الصغير.. ماكينة الخياطة الياباني التي مازلت متواجدة في المنزل القديم كاثر قيم وارث ثمين، كانت اشياء منتشرة في كل البيوت تستثمر بهم معظم امهات هذا الجيل وقت فراغهن الذي كان دائما موجودا رغم الحمل الثقيل من تربية الاولاد، "نحن ثلاثة بنات وولدين".

من أين هذه البركة في الوقت؟!

تذهب والدتي إلى المدرسة بعد أن توصلني إلى الحضانة، مدرسة؟! علمت بعد أن دفعني فضول الطفولة لتكرار الطلب كل صباح "آجي معاكي آجي معاكي" أنها مدرسة لتعليم التفصيل والخياطة ورسم الباترون ومهارات التريكو وغيرها من المهارت التي اشبعت منزلنا وكسته من الخيرات .. مفرش السفرة التريكو وغطاء السرير وجلباب والداتي الحرير وبيجامة والدي الكستور وفستاني الدانتيل بالجبير المنفوش وكسوة الطقم المدهب والانتريه ذو المساند الزان والمطعم بقطع الارابيسك.. مناديلي القماش المطرزة بورد على الأجناب.

المدارس المهنية كان ما زال لها وجود في هذا التوقيت "الثمانينات" بكثرة، وبدأت تختفي في نهاية التسعينات.. وكانت تنتشر مدارس لتعليم الخياطة والتفصيل وقص الباترون متنوعة، مثل مدرسة مدام "فيرا" المؤسسة في الخمسينات، بمستويات دراسة تمتد إلى سبعة أشهر.. –بالبحث علمت أن آخر فرع لمدارس السيدة الأرمينية كان لا يزال يستقبل طلبات تقديم لكورساته بنفس المنهج الذي وضعته مدام "فيرا" حتى العام الماضي، وهو فرع الإسكندرية حيث إن مدرسة "فيرا" كان لها خمسة فروع أربعة بالقاهرة وواحد بالإسكندرية، هو الأخير الذي أغلق لبيعه.

وحتى غلق آخر فروعها احتفظت أكاديمية التفصيل تلك بمنهجها وأدواتها وتصاميمها في الدراسة لأكثر من نصف قرن.

"الدكتور وصل".. تستوقف الذكريات صوت مزعج يعلن وصول دكتور الأشعة.. ويكمل.. "اتفضلي".

أسكن بداخل جهاز بارد القلب، لمدة تقترب من النصف ساعة أشعر بضمة القبر.. "ماتتحركيش" كان التنبيه بنفس نبرة الصوت المزعجة يوجه لي من الممرضة.

في ماذا أفكر؟ ابنتي.. أم نتيجة الفحص الذي لم ينته بعد.. وظيفتي المهددة بسبب أوضاع اقتصادية واجتماعية شرسة.. السايس الذي رفضت أن أعطيه مفتاح سيارتي وماذا يمكن أن يكون انتقامه.. كاوتش هاوِ.. أم خدش بالباب؟
أم أفكر في سعر الجبنة الريكفورد، أحبها ما بيدي حيلة وسعر الربع كيلو الآن يشعرني بالعجز.. كذلك سعر البلوفر موضة العام الماضي ولكن سعره يؤمن زيادات العام المقبل.

لا.. روب ماما هو الذي قفز إلى ذاكرتي مجددا.. أتذكرها وهي ترسم الباترون.. تختار تصميمه من اسكتش رسم كبير لديها.. هي التي رسمت جميع صفحاته بأشكال متنوعه للأرواب والجيب والبلوزات والبيجامات.

"كم أمي مبهرة".

الباترون ورق شفاف.. مازورة ومقص كبير.. إبر خيط وقلم أو طبشور.. العملية كلها بها بهجة، أمي في فمها بعض الدبابيس الصغيره تثبث بها ما تريد تثبيته.. والمازورة حول رقبتها تمتد ليدها.. الحسابات دقيقة والمقص تمسكه يد ثابتة لا ترتجف.
الباترون جاهز.. القماش أيضا جاهز.. عايزة الديل بكرانيش ولا لا؟

تسألني.. أجاوب بلا تردد.. كرانيش طبعا.

لماذا تحول هذا الذوق الرفيع لهذا الوضع الرديء.. أمي التي كانت تتمتع بذوق رفيع المستوي ويد صنايعي خياط محترف أحسن من مصممي أزياء "لوندن ولا باريس" بتعبير سيد درويش.. أصبحت ترتدي هذه العبايات المصنوعه من القطيفة بالشتاء "البروش" أو جلباب عادية من القطن بالصيف.. مستوردة من بلاد الواق واق، تخلو من اي ذوق يذكر.

لماذا أصبحت الجلبية القطيفة الرداء الأكثر شيوعا لأمهاتنا داخل المنزل منذ منتصف التسعينات، واستسهل اختيارها كهدية عيد الام المقرره في كل عام؟!

أين الروب وقميص البيت الفضفاض المزركش بكورنيش داير ما يدور.. والجيبة ديل السمكة والبلوزة ذات الأكمام الفضاضة والكاب الشتوي والشال الصوف ياأمي.. أين كل البترونات؟

لماذا توقف المقص ودوران ماكينه الخياطة.. الجلبيه القطيفة والعباءات السمراء.. الجاهز الخالي من الابداع اصبح الحل الاوفر ام الاسهل..ام المفروض بعد ان اصبحتي عورة.

توقف استخدام ماكينة الخياطة وماكينة الكحك وابر التريكو وسبرتاية القهوة..من كل البيوت، كما اختفت من بيتنا اسكتشات الرسم وورق الباترون وكور الخيط الصوف.. الانفتاح.. الانفتاح اغلق باب المتعة.

لكن .. لماذا لا ابدو في مثل بهاء واناقة والدتي في هذا الزمن..لماذا رغم كل هذه الحداثة، كل هذه الازياء ..الافكار..كل هذا الاستيراد.. لا اري هذا البهاء؟

اريد ان تراني ابنتي بهذا الرونق ..بهذه الاناقة .. بهذه الهالة التي كانت تحيط بروب أمي ذو الياقة العريضة والكرانيش والاكمام الواسعة والرباط الداخلي الصغير والاخر الخارجي المحيط بالوسط كاملا.

اناقة الهدوء بمذاق فنجان القهوة المصنوع علي مهل فوق سبرتايه اثناء حديث يجمع الجارات، لماذا اشعر اني في سباق طول الوقت؟ لاتراني ابنتي في لحظة بهذا الهدوء؟! .

لم تراني ابنتي بهذا الروب الانيق مع جميع مشتملاته من ربطة شعر تثبت التسريحة اللائقة و طلاء الاظافر بلونه الناعم.. والبال الرائق بطعم اغنيه فايزة "اخد حبيبي يانا ياما اخد حبيبي يابلاش..زارع في قلبي وردة والنبي ياما ماتقطفهاش" تنشدها والدتي مع الراديو في الصباح.

الفحص انتهي .. اخلعي الروب وارتدي ملابسك ونتيجة الفحص بعد يومين .. افاقني الصوت ذو النبرة العالية مره اخري.