لأول مرة منذ انتقلت إلى هذا الحى قبل واحد وثلاثين عاما أغلق جارها الطبيب عيادته، وكان ذلك يوم السبت الموافق 14 نوفمبر 2009. فعلى مدار هذه الفترة الطويلة التى عرفت فيها جارها النطاسى البارع لم يوصد أبواب عيادته فى الصباح، ولا أطفأ أنوارها فى المساء إلا فى العيدين وشم النسيم.
كان يسافر ليوم أو بعض يوم وما أن تحط طائرته على أرض المطار حتى يتخذ طريقه إلى العيادة، فهو من القلائل الذين يتعاملون مع الطب كرسالة وليس كمجرد مهنة. لكن فى هذا اليوم خالف الرجل عادته وفعل كما فعل معظم المصريين عندما منحوا أنفسهم إجازة فقَروا فى المنازل أو اتخذوا طريقهم إلى استاد القاهرة أو عملوا بنصف تركيز لساعة أو اثنتين لا أكثر.
فاليوم مباراة القرن كما وصفها مذيع بالقناة الثانية المصرية، وإن كانت لا تدرى بحق عن أى قرن كان يتحدث صاحبنا: هل القرن العشرون لكن بأثر رجعى أم القرن الحادى والعشرون الذى يكتمل بعد واحد وتسعين عاما بالتمام والكمال، منح الله الجميع طول العمر.
وحدهم كانوا رجال الأمن والإعلام وباعة الأعلام هم أصحاب الحضور المطلوب والكثيف جدا فى ميادين القاهرة وشوارعها. يحول الجنود العاصمة إلى ثكنة عسكرية جاهزة للمعركة. ويلتحم الإعلاميون بالمشجعين من الجانبين يسألونهم عن توقعاتهم قبل المباراة وعن شعورهم بعد المباراة، وطبعا يغطون أخبار اللاعبين ثانية بثانية. ويرقص الباعة فى الطرقات أمام السيارات فيجبرونها على الوقوف ماذا وإلا، ويلوحون بالأعلام صائحين: شجع بلدك.
أعلام من كل المقاسات تفنن المشجعون فى توظيفها بأشكال مختلفة، فإذا هى تتدلى من الشرفات وترفرف فوق السيارات أو تغطى زجاجها وأحيانا لوحاتها المعدنية. أعلام على هيئة تى شيرت وشال وغطاء للرأس ووشم على الوجه والذراعين.. أعلام فى كل مكان.. كل مكان.
هل نحن نحب مصر إلى هذا الحد؟ إن كنا نحبها فلماذا لا نخلص لها العمل؟ لماذا نختزل العمل فى الرياضة، والرياضة فى الكرة، والكرة فى الجزائر؟ وهل للعَلم فى ثقافتنا كل هذا التقديس؟ فإن كنا نقدسه فلماذا نتركه ممزقا متسخا فوق مرافقنا وعلى مكاتبنا وأعلى أعمدة الضوء فى شوارعنا؟ من منا يتبرع بعلمه الجديد النظيف بعد المباراة إلى الجهة التى يعمل فيها فيحفظ لمصر كرامتها لأن العَلَم المُهان يؤشر لدولة مهانة؟
على أى حال الآن وبعد أن انفض السامر ها هى تحاول أن تبحث عن نتيجة إيجابية واحدة فى كل هذا العبث الذى لازمنا طيلة الأيام الماضية. وها هى أخيرا تجدها. رد الفريقان المصرى والجزائرى لعصر جمال عبدالناصر اعتباره فى مواجهة حملة شرسة طالت البشر والحجر فى هذا العصر حتى حملته كل أوزار الفترة من عام 1970 إلى يومنا هذا.
فعندما أراد المتعصبون من المصريين أن يحرجوا إخوانهم الجزائريين عايروهم بأن مصر الستينيات هى التى ساندت ثورة الأول من نوفمبر عام 1954، وهى التى علمتهم الإسلام والعروبة، وهى التى ساهمت فى بناء الجزائر الحديثة.
لم يجد هؤلاء المتعصبون إذن خلال تسعة وثلاثين عاما ما يفاخرون به من دور لمصر عربى فى الجزائر إلا ميراث عبدالناصر. ورغم أن بين هؤلاء المتعصبين من لا يرى فى حقبة الستينيات إلا شرا مطلقا، كما هو حال هذا المذيع الفضائى اللامع الذى لا يترك فرصة للتذكير بأن عبدالناصر كان متسلطا ومستبدا إلا وذكَرنا بها، فقد شاهدناه يسمق برقبته عاليا كعادته ويرفع حاجبيه ويقول «ساندنا ثورة المليون شهيد».
وعندما أراد المتعصبون من الجزائريين الكيد لإخوانهم المصريين ترحموا على الزمن الجميل زمن جمال عبدالناصر وزملائه من الضباط الأحرار. هكذا قال صحفى جزائرى فى رده على تجاوز الإعلام الفضائى المصرى لكل الخطوط الحمر.
ومضوا خطوة أبعد بالتهكم على العلم المصرى فنزعوا النسر الذى يتوسطه ووضعوا مكانه نجمة داوود فى إشارة إلى اتفاقيات كامب ديفيد التى كانت من ميراث ما بعد عبدالناصر. لكن لأن بين هؤلاء من لا يقتنع بالتجربة الناصرية وفى الوقت نفسه لا يملك إنكار مسئولية مصر الخمسينيات والستينيات تجاه حركات التحرر الوطنى، تجده يتشفى فى هزيمة يونيو 1967، ويذكر بأن الدعم الذى قدمه الرئيس العروبة هوارى بومدين لمصر بعد النكسة كان هو السبب فى نصر أكتوبر.
عندما كان لمصر دورها العربى النابع من مصلحة مصرية ومن التزام قومى لا من شعور بالكبر والاستعلاء، بنى المهندس المصرى الشهير مصطفى موسى أكبر فنادق العاصمة الجزائرية وأقدمها فندق الأوراسى، وترأس الشيخ محمد الغزالى المجلس العلمى لجامعة الأمير عبدالقادر للعلوم الإسلامية فى قسنطينة، وعمل معه دعاة بقامة د.يوسف القرضاوى، كما حضر د.توفيق الشاوى الإعلان عن استقلال الجزائر ومعه صديقه الصدوق أحمد بن بيلا، ثم اشتغل لاحقا مستشارا لمجلس قيادة الثورة وأسس بنك الجزائر الوطنى. وعندما كان للجزائر مشروع عربى لم تعتبر هزيمة 1967 هزيمة لمصر توجب المعايرة بل هزيمة للتيار التقدمى بكل امتداداته العربية فى ذلك الحين وأساسا فى الجزائر.
عندما يتشاتم المصريون والجزائريون ويتضاربون ويتعايرون بسبب مباراة... مجرد مباراة على طريق الألف ميل لكأس العالم، وعندما يتعامل المصريون والجزائريون مع المباراة كمعركة ويحشدون لها الأنصار فى القاهرة والخرطوم يتجدد الحنين إلى زمن الستينيات التى كان فيها للمعارك معنى مختلف، ولا تملك صاحبتنا أمام دموع طالبها الجزائرى الخلوق إلا شعورا عميقا بالخزى والخجل مما جرى أو قد يجرى.