يواجه الاقتصاد المصرى مشكلة مزمنة فى الميزان التجارى وكان يتغلب عليها من خلال الفائض فى التحويلات الرأسمالية وفى ظل توافر عائدات من السياحة، ولكن مع تدهور الدخل من السياحة والتحول من تصدير البترول إلى استيراده ثم تراجع الصادرات، فلقد تفاقمت مشكلة توفير العملات الأجنبية اللازمة للاستيراد مما أدى إلى استفحال ظاهرة السوق السوداء وتعدد سعر صرف العملات الأجنبية.
وكما هى العادة فلا توجد مواجهة للمشكلة على المدى الطويل، بل محاولة كبح جماح الارتفاع فى سعر الدولار فى السوق السوداء، وهو ما تمثل فى قرار محافظ البنك المركزى السابق فى تحديد سقف الإيداع بالعملات الأجنبية بحد أقصى 50 ألف دولار شهريا وكان هدفه من ذلك تقليل الطلب على الدولار وبالتالى عدم زيادة سعره فى السوق السوداء، ولكن مع قوة المستوردين وعدم اتخاذ إجراءات للتغلب على نقص السلع فى الأسواق وبالتالى زيادة الأسعار، تراجع المحافظ الجديد للبنك المركزى فعليا عن قرار المحافظ السابق وسمح بزيادة سقف الإيداع إلى مليون دولار شهريا مما أدى بالطبع إلى زيادة الطلب على الدولار فى السوق السوداء وفى ظل ندرة العرض تزايد السعر حتى تخطى التسعة جنيهات وبفارق أكثر من جنيه عن السعر فى البنوك، مما يؤدى إلى المزيد من انخفاض حصيلة البنوك وزيادة قوة المتاجرين فى العملة بالسوق السوداء.
***
وهكذا فجأة حفلت كل وسائل الإعلام بالحديث عن زيادة سعر الدولار وهناك من يتوقع زيادته إلى أن يتعدى 15 جنيها بعد شهور، وانعدم العرض من الدولارات فى السوق انتظارا أو دفعا للمزيد من زيادة سعره، وبدأ حديث الجهل عندما نفشل فى مواجهة مشكلة بالحديث عن المؤامرة التى يتعرض لها الاقتصاد من الخارج بهدف إفشال النظام، وفى ظل هذه الفوضى يمكننا أن نطرح بعض الأفكار لتحليل ومواجهة هذه الأزمة:
1ــ علينا الإدراك بأن النقص فى العملات الأجنبية سيستمر لفترة طويلة فى ظل تدهور الإنتاج وعدم القدرة على استرجاع السياحة نتيجة الأوضاع الأمنية (مقتل الطالب الإيطالى ومن قبله مقتل السياح المكسيكيين وتفجير الطائرة الروسية).
2ــ ونتيجة نقص العرض من العملات الأجنبية فلابد من محاولة خفض الطلب على الدولار مما يتطلب إجراءات قوية فى خفض حجم الواردات وليس الإجراءات المترددة التى أعلنتها الحكومة من زيادة الرسوم الجمركية وضرورة تسجيل المصانع التى تقوم بالتوريد، وإذ كان محافظ البنك المركزى قد صرح بأن الواردات التى يمكن الاستغناء عنها نحو 20 مليار دولار فلن تفعل المناشدة شيئا فى عدم الاستيراد بل لابد من قرارات واضحة فى ذلك.
3ــ من الواضح أن البنك المركزى يتجه إلى خفض جديد لقيمة الجنيه بزيادة سعر الدولار، ونتيجة التردد فى اتخاذ القرار فإنه يزيد من تدهور قيمة الجنيه، فالمضاربون يحجمون عن طرح الدولار انتظارا لزيادة سعره مما يؤدى إلى المزيد من ارتفاع سعر الدولار وبالتالى يتجه من معه دولار لبيعه فى السوق السوداء التى تستفحل ويتراجع دور الجهاز المصرفى، وأعتقد أن الطرح الإعلامى المتزايد لظاهرة ارتفاع سعر الدولار هو نوع من العمل على تقبل المواطنين لزيادة سعر الدولار وما يتبع ذلك من زيادة الأسعار والتى يمهد لها رئيس الوزراء بالحديث عن ضرورة اتخاذ إجراءات مؤلمة وما يتسرب عن إعداد موازنة العام المالى القادم على أساس سعر للدولار 8.25 جنيه بدلا من 7.73 وهى كلها مؤشرات تمهد لزيادة سعر الدولار.
وهكذا نجد أن الحكومة هى المحرك لتعويم الجنيه فعليا من خلال زيادة سقف الإيداعات وهى تدرك أن المستوردين سيلجأون إلى السوق السوداء وبالتالى تترك الحكومة الفجوة تزداد بين سعر البنك المركزى للدولار وسعر السوق السوداء لتأتى الحكومة وتزيد من سعر الدولار ويكون مبررها المعتاد هو تقليل الفجوة بين السعر الرسمى وسعر السوق السوداء، وهو ما لا يحدث دائما فهناك الفجوة المتزايدة لأنه لا توضع سياسات سليمة تتجاوز الاهتمام بالسعر إلى دراسة السوق والعوامل المؤثرة عليه والتحول إلى اقتصاد إنتاجى.
4ــ وهكذا نجد أن البنك المركزى ممثلا للحكومة يتبع سياسة التعويم التدريجى للجنيه، ونظرا لمعرفة المتعاملين بالسوق بذلك فيكاد ينعدم العرض من الدولارات انتظارا للمزيد من ارتفاع سعره وهو ما يحدث فعليا، وهو ما يمكن أن نسميه التعويم خطوة خطوة وهو أكثر ضررا من التعويم المباشر لأنه مع كل زيادة لسعر الدولار يتوقع المضاربون زيادات أكثر مما يؤدى إلى المزيد من الارتفاع السريع وغير المبرر لسعر الدولار، وفى نفس الوقت يتوقف الجميع عن العمل فى انتظار السعر النهائى للدولار، فكيف تعمل البلاد فى ظل هذه الفوضى.
***
والمشكلة أن سعر الدولار الحالى هو سعر المضاربة وبالتالى من الخطأ أن تعتبره الحكومة المعيار الذى يحدد السعر الرسمى على أساسه، فلماذا لا يأخذ البنك المركزى بطريقة أخرى فى تحديد سعر الدولار بعيدا عن السعر الذى يتحدد نتيجة للمضاربات فى السوق السوداء، وهناك نظرية تعادل القوة الشرائية حيث يتحدد سعر الصرف بين عملتين على أساس القوة الشرائية لهما.
وإذا كان رئيس الوزراء يمهد لزيادة الأسعار بالحديث عن الإجراءات المؤلمة فإن الأكثر جدوى هو البحث عن كيف نتحول إلى مجتمع إنتاجى وكيف تقلل الحكومة من فساد الروتين ومواجهة الاحتكارات فبدون ذلك سنستمر فى اللهث وراء سعر الدولار دون جدوى.
أستاذ الاقتصاد بجامعة السادات