أزمة ضعف المستوى - ساره راشد - بوابة الشروق
الأحد 16 مارس 2025 8:12 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع نجاح اتفاق الهدنة في غزة؟

أزمة ضعف المستوى

نشر فى : الثلاثاء 20 يونيو 2023 - 7:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 20 يونيو 2023 - 7:20 م

تلك الكلمة «Mediocrity» التى إذا ما ترجمت إلى العربية لم تعط دلالات مفهومها. تترجم إلى العربية بمعنى «التوسط»، وفى حال استعمالها كصفة تعنى صاحب المستوى المتوسط؛ غير أن هذا المعنى يضيف مزيدا من الغموض حولها فتصبح الكلمة الأجنبية أفصح وأقوى لما لها من دلالات كثيرة لا تبينها الكلمة العربية التى ترجمت إليها.
التوسط صفة مدح فى الثقافة العربية، وهى جل ما تصبو إليه مجتمعاتها: التوسط والبعد عن الغلو والتطرف باعتبارهما المنزلق الأسهل لشعوب تحمل فى جيناتها الحمية والعصبية.
وقد تكون الكلمة الأفضل فى إعطاء الدلالة المناسبة هى «الضعف» أو «ضعف المستوى». ذاك الذى لا يقترب من الفشل أبدا ولا يصل إلى تحقيق أهدافه.. يلغى التحدى من حساباته.. ويرضى بالمضمون ولا يبذل غاية جهده وإنما يدخره لغد آخر ربما لا يأتى أبدا.
هذا الغموض فى فهم الكلمة بالعربية أضاف إليها مزيدا من الدعم والقبول بخلاف مدلولها. فما الضير فى التوسط أو قبول المستوى المتوسط «البين بين». وبرغم وجود الثقافة الإسلامية التى تحث على الإتقان والإحسان، إلا أن تعاملنا مع الدين بوصفه موروثا شعبيا فى معظم الأحوال جعلنا نغفل عن تحرى الدقة فى استخدام الألفاظ، وأنه ربما لتلك الكلمة معنى آخر سلبى وهو الضعف.
• • •
يتبادر فى الأذهان باستمرار البحث عن أسباب هذا الضعف، هل هو عدم سعى نحو التميز وبذل الجهد المطلوب؟ أم أنه عدم امتلاك المعرفة والأدوات والمعايير اللازمة للتميز؟ أم أن هناك طباع وعادات مقاومة للتُميز مثل المماطلة والتسويف واختصار وقت العمل وضعف الهمة والنشاط.
تحتاج الإجابة إلى تحليل معاصر يفسر الأسباب، وفى رأيى أن هناك سببين مهمين:
الأول، هو التجاذب المستمر بين قضيتين. فهناك دائما صراع بين اللغة الأم وهى وعاء الفكر، واللغة الأجنبية وهى لغة العلم فى العصر الحديث. وصراع آخر بين الماضى والحاضر المعاصر. وآخر بين شعور الانهزام الحضارى، والإيمان بضرورة اللحاق بركب التقدم.
هذا التجاذب المستمر قد يخلق تحديا هاما حتى يصل الإنسان فى بلادنا إلى التوازن بين القطبين المتباعدين.
ولكن يأتى السبب الثانى، وهو المجتمع نفسه، ليجعل التحدى يبدو أزمة أزلية، وبدلا من الاستمرار فى محاولة الصعود حتى الوصول إلى القمة؛ يكون المجتمع نفسه جاذبا إلى الاستسلام للهبوط. ولكنه هبوط يتفادى الإرتطام الحاد؛ أى بالفشل فى هذا التحدى.
فتظل حالة «البين بين» مستمرة، وينشأ حولها شبكة عنكبوتية من الموروثات والكليشيهات التى تجعل حالة ضعف المستوى حبيسة تلك الخيوط العنكبوتية الهشة الضعيفة؛ وينتهى التحدى أو ينسى تماما.
يبدأ تأسيس ضعف المستوى من المدرسة، لا أعلم لأى سبب يشرح المعلم الدرس قبل إثارة السؤال فى ذهن الطالب!! هكذا يبدأ التلقين، ثم تمييز الطالب الهادئ قليل التساؤل على الطالب كثير السؤال ووصمه بأنه يعطل الدرس.
قد تدرك الأسرة هذه المشكلة المبكرة فتساهم فى دعم الطفل رغم كل المؤثرات التى قد تأتى حتى من المعلم نفسه فضلا عن أقرانه، فتدفع التلميذ إلى تفضيل البقاء فى الظل، وتحجيم قدراته الذهنية والإبداعية لتصبح فى حدود المنهج المقرر.
دخول التعليم الأجنبى فى المعادلة لم يكن حلا للمشكلة، رغم أنه تعليم يرتكز على المهارات ولكنه يحسم قضية التجاذبات فى صالح اللغة الأجنبية فى معظم الأحوال؛ وما يتبع ذلك من التأثر والميل إلى الثقافة الغربية والانتماء إلى العالم المتقدم اعترافا بهزيمة حضارية وعزوفا عن المشاركة فى حل أزمتها.
يستمر ضعف المستوى فى التعليم الجامعى بالفجوة الموجودة أصلا بينه وبين الشهادة الثانوية، وكذلك بعدم اتصاله بسوق العمل.أضف إلى ذلك، الأبحاث العلمية فى الجامعات التى تأتى فى معظمها لنيل الدرجة العلمية ولا تحدث إثراء فكريا أو معرفيا أو حلولا للأزمة الحضارية إلا فيما يندر.
أما المؤسسات فتتجلى فيها الظواهر النفسية للتجاذبات وما يتبعها من طبقية اجتماعية وتغليب الشكل على المضمون والتقليد الراسخ على التجديد والتغيير، والسعى نحو المادة بصرف النظر عن القيمة.
هكذا يصل ضعف المستوى إلى المؤسسات نفسها التى بدورها تكرس هذا الضعف وتنميه وتوصم به.
وتبدو فى المحصلة حالة من الاستسلام لهذا الضعف فيتفشى فى كل مكان ويصبح هناك فكرة فى الأذهان تختصر فى كليشيه «هى دى مصر يا عبلة».
يزيد من حالة الاستسلام تلك اتجاه مضاد شديد الإفراط فى التمجيد التاريخى والإرث الحضارى الذى يرجع إلى ما قبل سبع آلاف سنة، دون الاعتراف بالمشكلة ومحاولة حلها تربويا ومؤسسيا ومجتمعيا.
وبينما تسعى الدول من حولنا إلى شحذ الهمم باعتماد الشفافية والتفكير النقدى والتقييم المستمر واحترام العلم والبحث عن إضافة القيمة الحقيقية لا الشكلية فى كل المجالات، فإننا نتقبل برضا واقتناع ضعف المستوى وندعمه بثقافة تدخر كل سعيها لأن تثبت للعالم بأننا «نستطيع» كلما تميز أحد أبنائنا فى الخارج؛ أو أن يرى العالم أن مصر بلد عظيم؛ فى حين أن إيماننا بأننا نستطيع لا يحتاج سوى مجتمع يدعم أفراده نحو التميز ورفع المستوى الفكرى والعلمى والثقافى.
إذن، فما السبيل إلى مقاومة ضعف المستوى؟
فى البداية إدراك أن للمجتمع تأثيرا يضعف تلك المقاومة، ولذلك فإن الفرد يستطيع المقاومة عن طريق التحفيز الذاتى والتطوير الذاتى والتقييم الذاتى، بدون اعتماد على البيئة المحيطة.
فى «عصر السلفى (selfie)» ليست الصورة الذاتية هى الشكل الوحيد لاعتماد الفرد على نفسه. إن إيمانه بذاته وقدرته على الصعود إلى القمة رغم كل التجاذبات والبيئة المحيطة هو نوع من «السلفى / selfie» الحقيقى الذى يقدمه لنفسه وليس مجرد صورة لا تعكس إلا الشكل الخارجى.
يحتاج الفرد إلى التخلى عن الخطاب الهدام الذى يضعف الهمة وأن يحرص على ما ينفعه وليس على منفعته.
الخبراء والمهنيون فى مجال الإدارة يدعمون مقاومة ضعف المستوى، وينتخبون أصحاب التميز من الأفراد ويعملون على توفير بيئة تساعدهم على التجديد والابتكار.
تلك هى الثروة البشرية التى ــلحسن الحظــ هى عماد هذا البلد وقوته الحقيقية، هم شبابها، إذا ما دعموا مهاراتهم الذاتية بأنفسهم وتوفرت لديهم المعايير المطلوبة لمستوى الأداء الأمثل.
فى أسبانيا تجربة «معا نتعلم ٢٠٣٠» وهى تجربة مجتمعية بدعم من بنك «بانكو بيلباو فيزكايا أرجنتاريا BBVA»، والتى بدأت فى عام ٢٠١٨ من أجل دعم العملية التعليمية ودعم حلقة الوصل بين الآباء والأساتذة المعلمين التربويين باعتبارهم شركاء فى بناء الإنسان؛ وذلك عن طريق حلقات مصورة ملهمة ومحفزة لتنمية قدرات الأطفال ومهارات القرن الـ 21 ودعمهم على المستويات المختلفة. وكذلك حلقات لطرح المشكلات الفكرية والثقافية والاجتماعية المعاصرة عن طريق تقديم آراء وخبرات لمتخصصين فى مجالات مختلفة وتدريب الآباء على طرق التعامل معها بما يؤكد على المسئولية المجتمعية فى تنمية أفراده عن طريق التشارك.
هذه التجربة الاجتماعية التى تقدم على مستوى عال من التميز اتسع أثرها لتصل إلى دول أمريكا اللاتينية الناطقة بالأسبانية أيضا، التى يواجه بعضها تحديات مماثلة لنا وتطمح أيضا إلى الخروج من أزمة ضعف المستوى.
تتميز التجربة بعفويتها وبقربها من الناس العادية ونقل التجارب الواقعية وطرحها للأسئلة بما ينشط العملية التشاركية فى البحث عن الإجابات والحلول بين فئات المجتمع المختلفة، وهذا يدل على أن المجتمع يستطيع أن يتبنى ثقافة النجاح والتميز بالتعاون بين أفراده ونقل الخبرات وتقبل الفشل باعتباره جزءا من السعى إلى الهدف، والتشجيع على الإصرار وإعادة المحاولة وخوض التجارب الجديدة وإنتاج الأفكار الخلاقة.

التعليقات