لم تكُن المُساوَمة التي قادها الوَلد مُتحمسًا داخل الشادر الضَّيق المُقام على قارِعة الطَّريق الرَّئيس؛ بناجحةٍ ولا مُجدية، فشراء الحقيبة المَدرسيَّة التي أعجبته غير مُمكن؛ ولو بذل الوعودَ بالكفّ عن قضاءِ وَقته في اللعِب على المَحمول، ولو أكد ملايين المرات أنه لن يطلب حذاءً جديدًا، ولو أقسم أنه سيكون الأولَ على فصْله. كانت محاولتُه مَحكومةً بالفشل؛ إذ ثمن الحقيبة غير مُتوفّر، وابتياعها يعني الحِرمان من حاجاتٍ أساسيَّة لا يُمكن إغفالها أو تأجيلها لوقتٍ لاحق.
* • •
تحوَّلت أسعارُ البضائع العاديَّة التي دَرَج الناسُ على استهلاكِها بصِفةٍ مُنتظمَة إلى ضَربٍ من الخيال، لم يَعد سهلًا على أسر كثيرة إعدادُ طعامِ الإفطار لتلميذ واحد بما يُشبِع جوعَه ويمُده بالعناصر الغذائيَّة التي يحتاجها جَسده، كذلك لم تعد المُساوماتُ بين الشاري والبائع في المتاجر والأسواق بمشاهد طريفة مُسلية؛ بل مواقف مُخجِلة مُسيئة.
* • •
تقول قواميسُ اللغة العربيَّة أن المُساوِمَ بكسر الواو شخصٌ ينخَرِط في مُفاوضاتٍ ما، هو الفاعل من فِعل سَاوَم، أما المَفعول به فمُساوَم بفتح الواو والمصدر مُساوَمة؛ ولإن سَاوَم شخصٌ الآخر كان المعنى أنه ناقشَه وجادله مُستهدِفًا إقناعه بما يريد، أما الفعل سوَّم بتشديد الواو فيُستخدَم على أكثر من وجه؛ يقال سَوَّمه الذلَّ والعذابَ بمعنى أذاقه إياهما، ويقال أيضًا سوَّمة المُهمَّة أي كلفه بأدائها. التسويم هنا له معنى بعيد عن التفاوض، والكلمة قليلة الوُرود في أحاديثنا العادية، تكاد تكون غير مستعملة؛ ربما لثقلِها على اللسان، لكنها في الوقت ذاته مَفهومةٌ لحضورها في المُوروث الديني.
* • •
المُساوَمة والفِصال في قيمة البضائع على اختلافِ ألوانِها ومَشاربِها؛ عادةٌ عند كثير المُجتمَعات والشُّعوب. بعضُ الناس لا يشعرون بقيمة ما ابتاعوا إلا إن فاصَلوا واطمأنوا إلى أنهم وصلوا للحد الأدنى الذي لا يُمكن النزولُ عنه. بعضٌ آخر يخشى التعرُّض للخداع فيسعى بما أوتي من طاقة للنجاةِ وإثباتِ الجَّدارة، بعضٌ ثالث يَستمتِع بالتفاوُض مع البائع وقد لا يشتري في نهاية الأمر شيئًا.
* • •
الدخولُ في عملية مُساوَمة يستدعي امتلاكَ سِعة في الصَّدر وهدوءًا للأعصاب وإصرارًا وقدرةً لا نهائية على الإعادةِ والتكرار. الطرفُ الأكثر تحمُّلًا ورغبةً في تحقيق مأرِبه هو الفائز في مُعظم الأحوال، أما الأقل ثباتًا؛ سريعَ المللِ والاستثارةِ فكثيرًا ما يتراجَع ويَرضى بالمُتاح.
* • •
مثلما تكون المُساوَمة في أمور البَيع والشِراء؛ فإنها تظهر في مَسالك السَّاسة وتحتلُّ مَوقعًا بارزًا من الأحداث. المُساوَمة على المَكانة والقَّدر، المُساوَمة على الكرامة والكبرياء؛ اختبارات صعبة قد تتحوَّل نتائجُها إلى وَصَماتٍ دائمة ما لم يُظهِر صاحبها الشدةَ والإباءَ، وما لم يكن مُستعدًا للتضحية في سبيل موقفه.
* • •
تقود المُساوَماتُ السياسيَّة الناجحة إلى توافُق أطرافُها على حلٍ مُلائم، ولا تكون المُحصِلة في العادة مُنصِفةً للجميع؛ بل مائلةً بطبيعة الأحوالِ إلى مَصلحة الأقوى؛ إذ غالبًا ما يمتثل الأكثر احتياجًا ويَرضخ. في العادة تفضَح هذه المُحصّلة ما تأتَّى التنازُلُ عنه، وتكشِفُ عن طبيعة الخطوطِ الحمراء التي لم يُمكن تجاوزُها -إن وُجِدَت- كما يُعطي مُؤشرات ذات دلالة لا تخطئها عَين على مَواطِن الضَّعف والقوَّة.
* • •
"بلاها نادية خد سوسو" المساومة الأشهر في تاريخ المسرح الضاحك. العبارة لعبقري الأداء، فريد الطلة؛ فؤاد المهندس في مسرحية ”سُك على بناتك“ التي عرضت في مطلع الثمانينيات وأخرجها لينين الرملي. المساومة هنا على زواج، وما أكثر ما يجري اليومَ مِن نقاشاتٍ في هذا الإطار، وما أصعبَ الظروف التي باتت تحول دون ارتباط الراغبين؛ بل وترجِّح الانفصالَ والتخلّي.
* • •
لا يُساوِم المَرءُ على شَرفِه ولا على أرضِه أو مبادِئه. بعضُ الأشياء لا تخضَع للأخذ والرَّد ففيها قولٌ فَصل؛ وإذ تحدث أمل دنقل في قصيدته عن الأشياءِ التي لا تُشترى؛ فتلك التي لا يقبل صاحبُها أيَّ نوعٍ من المُساوَمة أو أيّ مُحاولة للتواؤم؛ وإذ ألقى الشاعر في وجوهنا بفعلِ الأمر: "لا تُصالِح"، ففي الوقت الراهن ما يدعو لرفع شعار: "لا تُساوِم"، والحقُّ أن مُفردةَ المُساوَمة كثيرًا ما تأتي مَصحوبةً بصِفة "الحقيرة" للدلالة على محتواها المؤسف.
* • •
يتمتع أصحابُ الباع في المُساومة والتفاوُض بقدرٍ وافرٍ من الدأب، لا يكلُّ أحدُهم ولا يَملّ، يُكرر الكلامَ ويُعيده بأكثر من أسلوبٍ وطريقة، يَستوعِب احتدادَ الطرفِ الآخر وغضبه، يدفع بالمزايا التي تحققها رؤيتُه، ويُهوِن من الأضرار التي تكتنفها. قد يلجأ لتجميل الحقائق بما ليس فيها، أو يعرضها بما يُخفي مَثالبها. المُساومة فن والتفاوض فن، وإذ يتباحث غرماءُ السياسة من مواقع قوة مُتباينة، فالغلبة للأدهى والأوسع حِيلة. في مُفاوضات طابا تمكَّن الطرفُ المِصريُّ من استرجاع الحقّ المَسلوب.