تعرضت ثورة يناير لضربات متوالية منذ الأيام الأولى لانطلاقها، وذلك فى إطار مخطط من جانب المجلس العسكرى والقوى المضادة للثورة يستهدف تحويلها إلى حركة إصلاح محدودة غايتها إسقاط مبارك ومشروعه لتوريث الحكم لابنه. وقد تولدت هذه الضربات من مصدر أساسى، ألا وهو الطبيعة الشعبية للثورة وغياب قيادة ثورية جاهزة لمباشرة الحكم، ومن التناقض الجوهرى المتمثل فى مبادرة المجلس العسكرى بملء الفراغ الناشئ عقب رحيل مبارك. فقد آلت السلطة إلى كيان مرتبط عضويا ومصلحيا بنظام مبارك. وإذا كان المجلس العسكرى قد ظهر فى أول الأمر كوكيل عن الثوار، فإنه سرعان ما كشف عن نواياه الحقيقية وتحول إلى وصى على الثورة والثوار، وراح يفرض تصوره لمستقبل البلاد بما يحافظ على الوضع الخاص للجيش وعلى شبكة المصالح التى كونها على امتداد سنوات طوال وعلى جوهر دولة مبارك.
●●●
وكانت أولى خطوات المجلس العسكرى على طريق المحافظة على النظام السابق والوقوف ضد المطلب الشعبى بتصفيته واستبقائه لحكومة أحمد شفيق التى شكلها مبارك فى محاولة للالتفاف على الثورة (وهو ما تطلب أكثر من مليونية لإسقاط تلك الحكومة)، وامتناعه عن إصدار قرار بحل الحزب الوطنى وحل المجالس المحلية (وهو ما تحقق فيما بعد بحكم قضائى)، وعدم استجابته للدعوات المتكررة باعتقال رموز النظام السابق وإحالتهم لمحاكمات سياسية. بل إن المجلس العسكرى امتنع لفترة طويلة عن فرض الإقامة الجبرية على مبارك وأفراد أسرته وأعوانه من كبار المسئولين، وهو ما سمح لهم بالتنقل بحرية، وأتاح لبعضهم فرصة الهرب إلى خارج البلاد مصحوبا بما تيسر من أمواله. كما أتاح للبعض الآخر ــ لاسيما زكريا عزمى وبطانته وقيادات الداخلية وفرق القمع والتعذيب فى جهاز أمن الدولة ــ فرصة التخلص من المستندات الدالة على ما تورطوا فيه من جرائم مالية وسياسية ومن انتهاكات لحقوق الإنسان، فضلا على جرائم قتل المتظاهرين. وهو جعل المحاكمات التى جرت فيما بعد تفتقر إلى أدلة إدانة دامغة، وتتكرر فيها أحكام البراءة.
وكان فى الإمكان تجنب مثل هذه الأحكام لو استجاب المجلس العسكرى لمطلب إقامة النظام المعروف بالعدالة الانتقالية الذى طبقته دول كثيرة فى أعقاب الثورات، أو لمطلب المحاكمات الثورية. كما كنا سنتفادى بعض المآزق التى تعرضت لها البلاد فى الانتخابات التشريعية والرئاسية لو استجاب المجلس العسكرى لمطلب العزل السياسى وأصدره بإعلان دستورى لا مجال للطعن عليه. ولكن هيهات! فمثل هذا الإجراء كان كفيلا بتعريض عدد من أعضاء المجلس العسكرى للمساءلة التى قد تسفر عن عقاب من نوع أو آخر. ولذا آثر المجلس أن يدفع بقانون عقيم، وهو قانون إفساد الحياة السياسية الذى ولد مجردا من القدرة على عزل أى فاسد أو مفسد.
●●●
وكانت الطامة الكبرى هى استفتاء الشعب فى مارس 2011 على مجموعة تعديلات كان قد تم وضع معظمها من جانب ترزية القوانين فى محاولة لإنقاذ نظام مبارك، وأضافت إليها لجنة التعديلات الدستورية المواد الخاصة بالمسار الوعر الذى سرنا فيه وثبت الآن لمعظم من شاركوا فى تصميمه أنه كان مسارا خاطئا، وهو مسار الانتخابات قبل الدستور والمسار المعيب لتشكيل الجمعية التأسيسية. ويتشارك فى المسئولية عن هذا المسار العبثى كل من المجلس العسكرى وتيار الإسلام السياسى، وفى القلب منه جماعة الإخوان المسلمين والجماعات السلفية. فقد تصور هذا التيار أن فى هذا المسار فرصة العمر للاستيلاء على السلطة، غير مبال بما يمكن أن يتمخض عن مسلكه هذا من أخطار الاستقطاب الدينى ومن شروخ فى وحدة الوطن.
ودون الدخول فى مزيد من التفاصيل بشأن المسار الوعر للثورة، نقف عند الفترة الأخيرة التى شهدت عددا من الأحداث الجسام التى شكلت فى مجموعها محاولة جديدة للانقضاض على الثورة وتصفيتها، وتمكين النظام القديم من استعادة نفوذه. وتشمل هذه الأحداث المحاكمة الهزلية لمبارك وابنيه ورجال داخليته، وخاصة الحكم ببراءة الولدين وكبار قيادات الأجهزة الأمنية، والحكم بحل مجلس الشعب، وقرار منح الضبطية القضائية لضباط الجيش ورجال المخابرات الحربية الذى يعيد حالة الطوارئ فى ثوب جديد ويخضع المدنيين لسلطة استثنائية للعسكر. وأخيرا جاء إصدار المجلس العسكرى لإعلان دستورى جديد فى 17 يونيو 2012 ليعيد الأمور إلى حالة أسوأ من كل ما مررنا به منذ قيام الثورة. وهذه المسألة تحتاج إلى فضل بيان.
إننا بصدد الدخول فى فترة انتقالية جديدة يوجد فيها رئيس منتخب للبلاد، ولكنه إلى حد كبير رئيس مع إيقاف التنفيذ. فهو رئيس محدود الصلاحيات، حيث انتزعت منه صلاحيات مهمة لحساب المجلس العسكرى. وهو رئيس تحت الوصاية، بمعنى أن قراراته معرضة للنقض أو يجب أن تحظى بموافقة مسبقة من المجلس العسكرى. فالإعلان الدستورى الجديد يبقى على السلطة الفعلية بيد المجلس العسكرى، وينقلنا من مرحلة حكم العسكر إلى مرحلة تحكم العسكر.
فمع حل مجلس الشعب، آلت سلطة التشريع إلى المجلس العسكرى، وذلك بمقتضى المادة 56 مكررا. ومع أن المفترض أن يكون رئيس الجمهورية المنتخب هو القائد الأعلى للقوات المسلحة، فقد حجب الإعلان الدستورى عنه هذه الصفة، وحال بينه وبين تقرير أى أمر يتعلق بشئون القوات المسلحة، وجعل ذلك من اختصاص المجلس العسكرى لحين إقرار الدستور الجديد، وذلك حسب المادة 53 مكرر. كما فرض المجلس العسكرى وصايته على رئيس الجمهورية بإعطاء نفسه حق الفيتو فيما يتعلق بإعلان الحرب، وذلك وفق المادة 53 مكرر 1، وكذلك فيما يتعلق بالاستعانة بالقوات المسلحة فى مهام حفظ الأمن حسب نص المادة 53 مكرر 2. أضف إلى ما تقدم أنه لحين الاستفتاء على الدستور الجديد سوف يكون من حق المجلس العسكرى إصدار ما يشاء من الإعلانات الدستورية التى قد تحكم قبضته على مقاليد الأمور فى البلاد، وذلك دون أن يستطيع كائنا من كان الطعن عليها أمام أية جهة قضائية.
●●●
وفيما يتعلق بالجمعية التأسيسية المنوط بها كتابة الدستور الجديد، منحت المادة 60 مكرر المجلس العسكرى سلطة إعادة تشكيل هذه الجمعية دون تحديد أية معايير، وذلك إذا وقع ما يحول دون استكمال الجمعية التأسيسية لعملها ــ وهو الأمر الذى أصبح فى حكم المؤكد مع التشكيل المعيب لهذه الجمعية ومع انسحاب عدد من أعضائها. وهو ما يعنى أن تتولى وضع الدستور لجنة عينتها السلطة العسكرية الحاكمة، وذلك على خلاف الأصل وهو أن تكون الجمعية التأسيسية جمعية منتخبة. والأدهى والأمر من ذلك هو تلك المهزلة التى استحدثتها المادة 60 مكرر 1. فقد منحت هذه المادة حق الاعتراض على أى نص فى مشروع الدستور لأى من رئيس الجمهورية، أو رئيس المجلس الأعلى للقوات المسلحة، أو رئيس مجلس الوزراء، أو المجلس الأعلى للقضاء، أو خمس أعضاء الجمعية التأسيسية. وهو ما يعد تدخلا سافرا فى عمل الجمعية التأسيسية التى يفترض أنه لا معقب على عملها سوى الشعب من خلال الاستفتاء. كما أن هذا الإجراء يشكل افتئاتا على الأسلوب الديمقراطى فى اتخاذ الجمعية التأسيسية لقراراتها، حيث لا يعتد بأى نص فى مشروع الدستور حنى لو وافق عليه 80% من أعضاء الجمعية التأسيسية!
وإذا أصرت الجمعية التأسيسية على النصوص المعترض عليها، يحال الأمر إلى المحكمة الدستورية العليا لتفصل فيه. وهذا مسلك عجيب، لأنه يقحم المحكمة الدستورية فى شأن ليس من اختصاصها. فهذه المحكمة تختص بالنظر فى اتفاق القوانين مع الدستور من عدمه، ولا شأن لها بالنظر فى مواد الدستور ذاتها، وذلك بحسبانها معطيات تبنى عليها أحكام هذه المحكمة. وإذا قبلت المحكمة الفصل فى نزاع كهذا، فإنها لن تكون بصدد إصدار حكم قضائى، وإنما ستكون بصدد إصدار قرار سياسى! وفى هذا خلط خطير بين القضاء والسياسة. ومما يزيد من غرابة الأمر أن يؤسس اعتراض الجهات المحددة فى الإعلان الدستورى على مواد مشروع الدستور على تناقض هذه المواد «مع أهداف الثورة ومبادئها الأساسية التى تتحقق بها المصالح العليا للبلاد، أو مع ما تواتر من مبادئ فى الدساتير المصرية السابقة». ولاشك فى أن هذا السند فضفاض بدرجة يحتمل معها قبول أى نص أو رفضه حسب التعريف الذى يؤخذ به لأهداف الثورة أو المصالح العليا، وحسبما يعتد به من نصوص الدساتير السابقة.
والحق أن هذا الإعلان لا هدف له سوى استكمال الانقلاب على الثورة وإحكام القبضة العسكرية على زمام الأمور. ولذا يتعين رفضه. وعلى وجه الخصوص، يجب رفض قيام المجلس العسكرى بتشكيل الجمعية التأسيسية، والتمسك بأن تكون هذه الجمعية جمعية منتخبة انتخابا عاما مباشرا وفق قوائم انتخابية موحدة على مستوى الجمهورية، أو أن تشكل بأسلوب يجمع بين الانتخاب بهذه الطريقة وبين انتخاب نسبة من أعضاء الجمعية من ممثلين منتخبين من الجمعيات العمومية للنقابات والاتحادات وما إليها من منظمات قطاعية. كما يتعين التمسك بمطلب تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين والمفسدين، وحرمان أعوان النظام السابق من حق الترشح والانتخاب لفترة محددة، وذلك وفق نظام العدالة الانتقالية، وذلك قبل انتخاب الجمعية التأسيسية وقبل الانتخابات البرلمانية والرئاسية المفترض إتمامها بعد إقرار الدستور الجديد.
●●●
وأخيرا، فإن القوى السياسية مطالبة بوقفة مع النفس تراجع فيها ما ارتكبته أو تورطت فيه من أخطاء. فالمسئولية عن المأزق الذى وصلت إليه الثورة والبلاد لا تقع على كاهل المجلس العسكرى وحده، بل إن لكل القوى السياسية نصيبا معلوما فيها. وإذا كان تيار الإسلام السياسى يتحمل جانبا كبيرا من هذه المسئولية جزاء نهمه للسلطة بعد طول إقصاء من المشهد السياسى، فإن القوى الأخرى بما فيها القوى الثورية قد شاركت فى هذه المسئولية بالتفرق والتركيز على المظاهرات والاعتصامات والإعراض عن العمل السياسى المنظم، وبقصر النفس والاستسلام لبعض الحلول العرجاء والقوانين العقيمة التى قدمت كبديل للحلول والقوانين الثورية. كما شارك فى هذه المسئولية من اكتفوا بشعار الثورة مستمرة. فالثورة لن تواصل مسيرتها بمجرد ترديد هذا الشعار فى وسائل الإعلام وفى المسيرات والتظاهرات، وإنما بتكاتف القوى الثورية وانخراطها فى الحياة السياسية والعمل الحزبى المنظم،والتحامها بالجماهير فى مواقع العمل والسكن، وببناء تحالفات أوسع وتوافقها على مطالب محددة بشأن تصفية النظام القديم والتحرك نحو بناء نظام سياسى ديمقراطى، وعلى وسائل للحشد الجماهيرى ولممارسة الضغط اللازم لتنفيذ هذه المطالب.