حينما تولى الرئيس عبدالفتاح السيسى مهام منصبه فى يونيو من عام ٢٠١٤، فقد كانت السياسة الخارجية المصرية مضطربة فى ظل ضغوط وانتقادات دولية طالت مصر منذ الإطاحة بحكم الرئيس الأسبق محمد مرسى. كانت قضية الشرعية ما زالت محل تساؤل فى الدوائر الغربية وكان الملف المصرى الحقوقى ما زال محل انتقادات واسعة. كذلك فرغم دعم دول الخليج العربى لمصر، فقد كانت مصر الرسمية محاصرة من أطراف عديدة أبرزها قطر وتركيا والإدارة الأمريكية الديموقراطية بأدوات مادية ومنابر إعلامية وضغوط سياسية.
بالإضافة لهذه الضغوط فقد كان الأمن القومى المصرى مهددا من بعض دول الجوار وخصوصا فى ظل تدهور العلاقات بين النظام المصرى وحركة حماس مع وضع الحدود الشرقية المضطرب فى ظل مشكلة الأنفاق، وغياب حكومة مركزية على الجانب الآخر من الحدود الغربية مع حرب طاحنة وفوضى عارمة ضربت الجانب الليبى، فضلا عن استسهال النظام السودانى تصدير مشاكله الداخلية إلى مصر بإلقاء اللوم على الجانب المصرى مع أى أزمة داخلية يواجهها مع مشاكل مزمنة فى مثلث حلايب وشلاتين وكذلك أزمة سد النهضة، هذا كله فضلا عن انتشار الإرهاب واستهدافه المستمر لنقاط تمركز الشرطة والجيش فى شبه جزيرة سيناء، ولاحقا باستهدافه أماكن تجمع غير المسلمين وقتل المواطنين الأقباط على الهوية، كل هذا قد أثر بشدة على الدور الإقليمى المصرى الذى أصبح مرشحا للمزيد من التراجع كما بدا الوضع فى ٢٠١٤.
***
بالنظر إلى السياسة الخارجية المصرية الآن وبعد مرور ثلاث سنوات على تولى الرئيس السيسى، فهناك عدة نجاحات واضحة فى مقابل إخفاقات محدودة ولكنها تظل مؤثرة. ولأن مفاهيم النجاح والإخفاق قد تختلف بشدة بحسب المقياس المستخدم وخصوصا فى ظل تسييس معظم قضايا السياسة الخارجية بحسب الموقف من النظام داخليا، بحيث يميل المعارضون إلى وصف السياسة الخارجية بالفشل فى مقابل ميل المؤيدين إلى وصف السياسة بالنجاح، وكل ذلك عادة فى ظل مواقف متخذة مسبقا بغض النظر عن المحتوى. إلا أن كاتب هذه السطور يقصد بمعيار النجاح هو تحويل قيود السياسة الخارجية إلى مكاسب، أى ليس مجرد التغلب عليها ولكن استغلالها لكسب موقف ومساحات معتبرة فى الشأن الدولى والإقليمى وهو كما يبدو بوضوح معيار براجماتى ليس مرتبطا بتقييمات قيمية وهذا هو الحال عند تقييم السياسات الخارجية للدول الديمقراطية منها وغير الديمقراطية.
***
بهذا المعنى المقصود، فقد حققت السياسة الخارجية المصرية خمسة نجاحات معتبرة هى على النحو التالى:
النجاح الأول فى تحويل الإرهاب من قيد على الدور المصرى الخارجى إلى أداة استغلتها مصر لفرض رؤيتها الإقليمية فى محاصرة الأنظمة السياسية غير المرغوب فيها (تركيا وقطر) ودعم تلك الأنظمة التى تفضلها (سوريا) فضلا عن طرح مصر لنفسها باعتبارها مركزا لمحاربة الإرهاب فى منطقة الشرق الأوسط. وهكذا تحول الإرهاب من قيد إلى مكسب، لم يتوقف الإرهاب وما زال يضرب، لكن تم تطويعه كأداة لإقناع القوى الغربية والإقليمية بالأجندة السياسية المصرية، والتى حاصرت القوى الإقليمية المناوئة وقلمت أظافر بعض المنافسين الإقليميين من غير الدول. من حصيلة نقاشات متنوعة مع دبلوماسيين وصانعى سياسات أمريكيين وأوربيين من العاملين على ملف الشرق الأوسط، فهناك قناعة حقيقية أن دور مصر فى مواجهة الإرهاب فى المنطقة لا يمكن الاستغناء عنه وأصبحت القاهرة هى محور التنسيق لاستراتيجيات هذه المواجهات على الأقل إقليميا.
تمثل النجاح الثانى فى كسر الحصار السياسى الدبلوماسى الذى فرض على مصر منذ ٢٠١٣ ليس فقط فى كسب شرعية سياسية كانت محل شك فى الفترة من ٢٠١٣ وحتى ٢٠١٤، ولكن أيضا فى كسب حلفاء دوليين وإقليميين جدد مثل قبرص واليونان (على خلفية محاولة حصار تركيا)، وروسيا والاتحاد الأوروبى (تحديدا ألمانيا وفرنسا)، فضلا عن الصين والولايات المتحدة الأمريكية وخصوصا مع تغير الإدارة الأمريكية ومجىء أخرى شعبية جمهورية. استخدمت مصر مزيجا من الأدوات الأمنية (الحرب على الإرهاب)، والأيديولوجية (تقديم نسخة معتدلة للإسلام السنى الوسطى)، والاقتصادية (صفقات الأسلحة والاستثمار فى مجال الطاقة) لتغيير موقف القوى الإقليمية والدولية ومخاطبة الجانب البراجماتى فى سياساتهم الخارجية.
أما النجاح الثالث فقد تمثل فى إعادة رسم سياسات المنطقة بالكامل، فرغم موقف الحليف السعودى المساند للفصائل الثورية فى سوريا، فقد وقفت مصر بقوة مع النظام السورى وصممت على إعلان موقفها بوضوح شديد فى مناسبتين مختلفتين فى مجلس الأمن مؤسسة هذا الموقف على إدانة استخدام الأسلحة الكيماوية ضد الشعب السورى وفى نفس الوقت رفض فرض جماعات من غير الدول أجندتها السياسية على النظام السورى، ورغم انتقاد البعض لهذا الموقف واتهامه بالتناقض إلا أن الموقف فى رأيى كان متسقا للغاية وتعبيرا عن وعى رشيد بطبيعة التناقضات فى المواقف الدولية واستغلالها سياسيا للأزمة السورية.
والمثير للانتباه هنا أن الموقف المصرى يتعارض تماما مع الموقف السعودى الذى دأب البعض على وصفه «بالكفيل» فى إشارة إلى التبعية المصرية لسياسات المملكة، ولكن كان هذا الموقف المصرى من الأزمة السورية أقوى رد على هذا الاتهام ورغم أنه تسبب فى حملة شعواء من المملكة على مصر إلا أن الأخيرة صممت على موقفها بل وإعادته مرة أخرى على خلاف الأزمة السعودية اللبنانية أخيرا، فقد كان استقبال السيسى للحريرى فى القاهرة قبل عودة الأخير إلى بيروت والرسائل التى بعثت بها القاهرة على خلاف تصاعد الخلاف السعودى الإيرانى رسالة جديدة على عدم صحة فرضية «الكفيل» وقد وجدت فى زيارتى الأخيرة إلى بيروت ترحيبا واحتفاء حقيقيا من كل الدوائر السياسية اللبنانية بهذا الموقف المصرى.
***
نجحت مصر رابعا فى العودة وبقوة إلى القضية الفلسطينية ورغم كل المزايدات الفارغة التى تأتى من بعض الأطراف العربية التى تورطت هى نفسها فى محاولة التقرب سرا من الجانب الإسرائيلى أو التى تأتى من بعض القوى الداخلية التى ليس لديها سوى توصيفات الخيانة فى رؤية الدور المصرى، إلا أن الأخير قد نجح تماما فى إعادة القضية الفلسطينية إلى الساحة بعد أن تراجعت فى محور اهتمام القوى الإقليمية خلال السنوات السبع الماضية وتمثل هذا النجاح أيضا فى هذا التجاوز الرشيد المثير للانتباه فى عقلية صانع القرار المصرى للفصل بين الخصومة مع الإخوان داخليا والخصومة مع حلفائهم خارجيا، ومن هنا تراجع النظام المصرى عن اتهام حماس بالإرهاب وأعادها إلى قلب القاهرة وقاد المصالحة الفلسطينية الفلسطينية، ورغم أن الأخيرة ما زالت متعثرة إلا أن إعادة مصر كحاضنة للشأن الفلسطينى الداخلى والتفاوض مع الجانب الإسرائيلى والأمريكى هو نجاح معتبر فى هذه المدة القصيرة وخصوصا بعد سنوات من الخصومة الفلسطينية الداخلية.
ثم يأتى النجاح الخامس والأخير والذى تمثل فى إعادة رسم السياسات الليبية ومنطقة الشمال الإفريقى بحيث أصبحت القاهرة أيضا ممسكة بأطراف الأزمة الليبية كما فعلت مع أطراف الأزمة السورية، يتم ذلك بالتنسيق مع الجزائر وفرنسا وإيطاليا بحيث حولت مصر ليبيا من مصدر للأزمات والإرهاب إلى ساحة قابلة للإدارة والتفاوض وهو ما قد يساهم فى مواجهة الجماعات الإرهابية العابرة للحدود الغربية مع احتمالية وضع إطار سياسى من أجل فرض السيادة وخصوصا بعدما صدر إعلان القاهرة فى فبراير الماضى ليعبر عن إمكانية تحقيق هذا التوجه.
تمكن النظام المصرى من عبور أزمة الاعتراف بشرعيته السياسية وطرح نفسه كرأس حربة لمواجهة الإرهاب فى المنطقة مع اعتراف العديد من القوى الغربية والشرقية، الإقليمية والدولية بمصر كوسيط فى الأزمات السورية والليبية والقضية الفلسطينية، فضلا عن قدرتها على إعادة طرح أجندة الأولويات السياسية فى المنطقة العربية والشرق أوسطية مع محاولة احتواء نار الصراع السنى الشيعى وحماية دول الجوار من تحولها إلى ساحة لتصفية الحسابات المذهبية وعدم قبولها لدور التابع مهما كلفها الأمر من انتقادات أو أثمان سياسية هى عناوين نجاحات السياسة الخارجية المصرية خلال السنوات الثلاث الماضية. لكن ما هى أهم إخفاقات السياسة الخارجية المصرية خلال نفس هذه الفترة؟ وما هى أهم التحديات التى ما زالت تنتظرها؟ هذا ما أتناوله فى المقالة القادمة.