من «نصر مطلق» إلى هزيمة استراتيجية - يحيى عبدالله - بوابة الشروق
الأحد 29 سبتمبر 2024 3:51 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

من «نصر مطلق» إلى هزيمة استراتيجية

نشر فى : الأربعاء 26 يونيو 2024 - 6:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 26 يونيو 2024 - 6:50 م

منذ بداية الغزو البرى، الإسرائيلى، الوحشى، لقطاع غزة فى 27 أكتوبر 2023م، وكل أعضاء مجلس الحرب، والأركان العامة، وكثير من الساسة، يدلون بتصريحات متغطرسة وأنصاف حقائق حول مجريات الأمور على أرض الواقع. حدد مجلس الحرب أربعة أهداف للحرب تتمثل فى: القضاء على حكم حركة حماس فى القطاع وتدمير قدراتها العسكرية، ووضع حد للتهديد الذى تمثله على إسرائيل، وإطلاق سراح الأسرى، والدفاع عن حدود الدولة ومواطنيها. ومع أن جيش الاحتلال استعمل قوة تدميرية رهيبة فى الحرب، وقتل عشرات الآلاف من المواطنين من سكان غزة، من بينهم نسبة تُقدَّر بالثلثين من النساء والأطفال والمدنيين العزل، طبقًا لتقديرات دولية محايدة، وأزال أحياء سكنية كاملة، وجعل الحياة فى القطاع شبه مستحيلة، بعد تدمير كل البنى التحتية، وأجبر معظم سكان القطاع على النزوح من مناطقهم داخل القطاع، فمن الواضح، حتى الآن، وبعد مرور أكثر من ثمانية أشهر على الغزو، أنه لم يحقق أيًا من الأهداف المعلنة للحرب.

• • •

اعترف بهذه الحقيقة، مؤخرًا، تساحى هنجبى، رئيس مجلس الأمن القومى الإسرائيلى، الشخصية المقربة من رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، حين قال أمام لجنة الخارجية والأمن بالكنيست، فى نهاية شهر مايو الماضى: «لم نحقق هدفًا واحدًا من الأهداف الاستراتيجية للحرب ـ لا الظروف لإتمام صفقة بشأن «المخطوفين»، ولم نقضِ على «حماس»، ولم نتح لسكان الغلاف (سكان المستوطنات المحيطة بقطاع غزة، الذين أخلتهم السلطات الإسرائيلية بُعيْد اندلاع الحرب) العودة إلى البيت آمنين. ويذهب وزير العدل الإسرائيلى السابق حييم رامون، مدى أبعد حين يشير إلى أن مجلس الحرب والأركان العامة ليس لديهما خطط عملياتية بشأن كيفية تحقيق هذه الأهداف فى المستقبل المنظور.

ما تزال حركات المقاومة بالقطاع، وعلى رأسها «حماس»، صامدة فى وجه العدوان الإسرائيلى، رغم مرور ثمانية أشهر على اندلاع الحرب، وهى تعيد تنظيم نفسها وصفوفها، وتنشط، مجددا، فى المناطق التى دخلتها القوات الإسرائيلية ثم انسحبت منها، كما فى منطقة خان يونس، بل حتى فى مناطق شمال القطاع، التى هاجمتها إسرائيل بضراوة منقطعة النظير، وتكبد القوات الإسرائيلية خسائر فادحة كل يوم. فى ديسمبر من العام الماضى، على سبيل المثال، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلى أن قوات الجيش، فى منطقة جباليا، أجهزت على القدرات العسكرية لكتيبة جباليا، وعلى اللواء الشمالى لـ«حماس»، وغادرت المنطقة، لكنها حين أغارت عليها مرة ثانية، تعرضت لمقاومة من جانب أعداد كبيرة من مقاتلى «حماس» ولقوة نيران هائلة. وهو أمرٌ تكرر كثيرًا فى مناطق هاجمتها إسرائيل فى القطاع. بالإضافة إلى ذلك، نجحت عناصر المقاومة فى غزة، فى الآونة الأخيرة، فى إطلاق عشرات القذائف الصاروخية من مناطق مختلفة فى القطاع ـ من الشمال ومن الجنوب ـ ليس على المستوطنات المحيطة بغزة فقط، وإنما على مدينة تل أبيب نفسها، وما يزال عشرات الآلاف من المستوطنين الإسرائيليين يخشون العودة إلى المستوطنات المتاخمة لقطاع غزة، ما يعنى أن قيادات المقاومة ما تزال تسيطر على الأمور، وتدير المعركة بحسابات واعية.

أما فيما يتعلق بإدارة القطاع وتسيير شئون الناس به، فإن حركة حماس ما تزال تسيطر سيطرة شبه تامة على القطاع وتشرف على توزيع المساعدات الإنسانية على المواطنين، بشهادة الضابط الإسرائيلى الذى يتولى قيادة العمليات العسكرية فى منطقة جباليا: «تسيطر «حماس» على حركة النشاط بمخيم جباليا للاجئين وعلى حركة السوق به بشكل كامل، وهو نشاط يجرى بشكل معتاد».

أخفقت إسرائيل أيضًا فى تحقيق هدف إطلاق سراح كل الأسرى الموجودين فى قبضة «حماس» وسائر عناصر المقاومة من خلال الضغط العسكرى المكثف، والمتواصل (لم ينجح الضغط العسكرى الإسرائيلى الرهيب، والمعلومات الاستخبارية التى توفرها الولايات المتحدة الأمريكية فى استرداد الأسرى، باستثناء أربعة فقط يوم السبت 8 يونيو 2024م، وبعد ارتكاب مذبحة مروعة فى مخيم النصيرات، فيما ظل بقية الأسرى ـ 120 أسيرًا، بحسب الأرقام الإسرائيلية ـ فى قبضة الفصائل الفلسطينية).

• • •

قصارى القول، كما يقول، حييم رامون، أن مجلس الحرب والأركان العامة «فشلا فشلًا ذريعًا فى تحقيق أهداف الحرب»، وأن إسرائيل «على أعتاب هزيمة استراتيجية لم تعهد لها مثيلًا من قبل، فيما يزال كبار المسئولين السياسيين والعسكريين يُلقمون الإسرائيليين أوهامًا وكأن العملية العسكرية المحدودة فى رفح ستكون نقطة الحسم فى الحرب»، مضيفًا أنه على الرغم من أن الفشل فى الحرب بات واضحًا للجميع، فإن الجيش مستمرٌ فى استراتيجيته الفاشلة المتمثلة فى الهجوم ثم الانسحاب مع عدم تحقيق سيطرة على الأرض.

يتهم، رامون، وسائل الإعلام الإسرائيلية، خاصة المحللين والمراسلين العسكريين، بأنهم يرددون ما يقوله أعضاء مجلس الحرب والأركان العامة، ويخفون عن الناس الحقيقة بشأن فشل الجيش، الذى لم يستطع، خلال ثمانية أشهر من القتال، تركيع أضعف أعداء دولة إسرائيل". يتوافق هذا التحليل مع معطيات استطلاع للرأى أجراه "معهد الحرية والمسئولية بجامعة رايخمان"، الذى يشير إلى أن قطاعا عريضا من الإسرائيليين (ما بين 35ـ 40%) يعتقدون أن نتائج الحرب الإسرائيلية على غزة انتصارٌ لـ "حماس"، وأن واحدًا، فقط، من بين كل عشرة إسرائيليين يعتقد أن إسرائيل هى المنتصرة.

كما يشير البروفيسور، آسيف إفرات، الأستاذ بالجامعة إلى أن "الإحباط من مسار الحرب ونتائجها يخلق رغبة فى التغيير لدى الناس". ومن ثم، ازدادت، على ضوء هذا الفشل الاستراتيجى، الأصوات، التى تطالب المسئولين عنه بتقديم استقالاتهم، سواء من السياسيين أم العسكريين، وعلى رأسهم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع، يوآف جالانت، ورئيس الأركان العامة، هرتسى هليفى.

• • •

فى موازاة الفشل على الصعيد العسكرى ثمة فشل على الصعيد السياسى والدولى، أيضا، إذ اعترفت دول أعضاء فى الاتحاد الأوروبى (إسبانيا والنرويج، وآيرلندا، وسلوفينيا، وغيرها)، من جانب واحد، بدولة فلسطينية، واكتسبت السردية الفلسطينية زخما كبيرا على حساب السردية الإسرائيلية، التى ظلت مهيمنة لعقود خلت، واتهمت محكمة العدل الدولية إسرائيل بارتكاب أفعال ترقى إلى جريمة الإبادة الجماعية، وطلب المدعى العام للمحكمة الجنائية الدولية، كريم خان، من هيئة المحكمة إصدار أوامر بإلقاء القبض على رئيس الحكومة، نتنياهو، ووزير الدفاع، جالانت، وأصدرت الأمم المتحدة تقريرا أدْرج فيه أن الجيش الإسرائيلى ضمن «قائمة العار» ـ القائمة السوداء ـ للجيوش التى تقتل الأطفال، جنبًا إلى جنب مع دول مثل روسيا وسوريا، والكونغو، وتنظيمات مثل «داعش»، و«بوكو حرام»، وهو ما من شأنه أن يلقى بظلال على علاقات إسرائيل مع بعض الدول، وعلى صفقات السلاح المبرمة معها، وعلى التعاون معها فى المجال الأمنى.

قطعت بعض الدول أيضا علاقاتها بإسرائيل، وسحبت بعضها سفيرها من تل أبيب، واستدعته بعضها للتشاور، أو للتوبيخ، وأوقفت بعضها التعامل التجارى معها، وبعضها إمدادها بالأسلحة والذخيرة، وأعلنت دولة المالديف حظر دخول الإسرائيليين إلى جزرها، وألغت فرنسا مشاركة شركات إسرائيلية فى معرض الأسلحة الدولى المقام فى باريس، الأمر الذى يمثل ضربة للشركات الإسرائيلية الناشئة، كما ألغت شركة أبوظبى الوطنية للنفط خطط شراء 50% من شركة «نيو ماد» بالتعاون مع «بريتش بتروليم»، ما يمثل ضربة لقطاع الطاقة فى إسرائيل.

على صعيد آخر، انطلقت مظاهرات عارمة ضد إسرائيل فى عواصم الدول الأوروبية الكبرى، وفى كبرى الجامعات الأمريكية، وأوقفت بعض الجامعات التعاون الأكاديمى مع الجامعات الإسرائيلية، حتى إن كثيرا من الباحثين الإسرائيليين اشتكوا من أنهم يجدون صعوبة فى نشر مقالاتهم العلمية فى المجلات العلمية، لأن محكمى البحوث يرفضون قراءتها، ودخلت العلاقات بين بايدن ونتنياهو منعطفا خطيرا، وانقسم يهود الولايات المتحدة الأمريكية إزاء السياسة الإسرائيلية الحالية، بحسب استطلاع للرأى أجراه معهد القدس للشئون العامة والسياسية، إذ يعتقد نحو 30% منهم أن إسرائيل مسئولة عن إبادة جماعية فى قطاع غزة، ويتفق 50% منهم مع موقف الرئيس بايدن بشأن إرجاء إرسال بعض شحنات الأسلحة إلى إسرائيل بعد شنها الهجوم البرى على رفح، وباتت إسرائيل فى عزلة دولية غير مسبوقة، وانقلبت الصورة الذهنية عنها من دولة «قوية»، و«متطورة»، و«راغبة فى السلام»، و«ديمقراطية»، إلى صورة الدولة الهشة، والعالة على أمريكا والغرب، والعدوانية، وغير الراغبة فى السلام، والقمعية.

تصدرت القضية الفلسطينية اهتمام دول المنطقة والعالم، بعد محاولات سافرة لوأدها، وبعد أن روَّج نتنياهو لفكرة أنه لا حاجة إلى أى عمل سياسى إزاء الفلسطينيين، وجمَّد المحادثات، بشأن السلام، مع السلطة الفلسطينية، بل إنه قال، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، قبل السابع من أكتوبر، إن الشرق الأوسط على عتبة تغيير تاريخى، ملمحًا إلى محادثات التطبيع مع السعودية. من جانب آخر، انعكس الفشل الاستراتيجى فى حالة الانقسام داخل مؤسسات الحكم. إذ ظهرت خلافات حادة على السطح، داخل المؤسسة العسكرية، بين كبار قادة الجيش ورئيس الأركان، وخلافات داخل «كابينيت الحرب» بين حزب «المعسكر الرسمى»، بزعامة، بنى جانتس، من جانب، ونتنياهو من جانب آخر، أدى إلى انسحاب حزب جانتس من الحكومة. نحن إزاء فشل استراتيجى مركَّب، وتخبط على جميع المستويات، وافتقاد للرؤية، من الصعب معه الادعاء بتحقيق «انتصار مطلق».                         

يحيى عبدالله أستاذ الدراسات الإسرائيلية بجامعة المنصورة
التعليقات