أشرنا فى مقال سابق إلى رفض الإسلاميين ودعاة الدولة الدينية لمبدأ المواطنة، لأنه يؤكد على الهويات المتعددة للإنسان، بينما هم يقفون عند حدود الهوية الدينية فحسب، كما أنهم يتمسكون بالمادة الثانية من الدستور ــ مادة الشريعة الإسلامية ــ بينما المواطنة لا تنسجم معها، وأخيرا التأكيد على اختلاف الأغلبية الدينية عن الأغلبية السياسية، وهو ما يرفضه الإسلاميون أيضا، واليوم نواصل الحوار حول موقف الإسلاميين من الدولة الدينية.
فلا شك أن شعار المواطنة سيفتح الطريق إلى العلمانية، ونريد أن نؤكد هنا أن العلمانية من وجهة نظرى لا تعنى فصل الدين عن الحياة، ولا تعنى اللادينية كما يحاولون إرهابنا. وإنما العلمانية التى نقصدها تعنى فصل الدين عن السياسة، فالدولة والسلطة والحكومة تعبيرات سياسية وليست تعبيرات دينية، ومن هنا فالعلاقات السياسية بين المواطنين وبعضهم البعض، أو بينهم وبين الدولة ينبغى أن تقوم على أساس مصالح الناس المباشرة، مثلا مع مجانية التعليم أو ضدها، أو مع التأمين الصحى أو ضده، مع زيادة الضرائب أو ضدها.. وهكذا، وهنا سنجد باستمرار مسلمين مع زيادة الضرائب، ومسلمين ضد، وأيضا أقباط مع وأقباط ضد، وهكذا تنبنى الدولة على أساس صراع المصالح السياسية، وليس على أساس الهوية الدينية. والعلمانية أيضا تعنى رفضنا لقيام أحزاب على أسس دينية أو قيام دولة دينية.
المهم أن المواطنة ستفتح الطريق إلى العلمانية. إذ إن الأمر لن يتوقف عند حد الموافقة على أن يتولى الأقباط مناصب تنفيذية مهمة مثل رئاسة الجمهورية، بل إنه فى هذه سيعنى أن يتولوا مناصب التشريع كذلك، وفى هذه الحالة سينطلق التشريع من مبادئ إنسانية ووطنية، وليس من مبادئ الشريعة الإسلامية.
كما أن إقرار مبدأ المواطنة سيلقى بظلال من الشك على الكثير من مصداقية تمثيل أى جماعة إسلامية لمسلمى العالم ككل، فمن المعروف أن جماعة الإخوان المسلمين لتنظيماتها فروع فى أجزاء مختلفة من العالم، حيث تجد فى تلك البلاد مجالا أوسع للاستثمار وفتح فروع لبنوك التقوى وللعديد من الاستثمارات الاقتصادية، وهى تجد ترحيبا كبيرا من تلك الدول وجماعاتها الإسلامية، باعتبارها فصيلا إسلاميا مكافحا تمتد شرعيته خارج مصر إلى كل مكان فى العالم يوجد فيه مسلمون، ومن هنا فمع إقرار مبدأ المواطنة فلن تنتهى جماعة الإخوان ــ ونرجو الله مخلصين ألا تنتهى ــ وإنما فقط ستصبح فصيلا إسلاميا مصريا لا يحق له قيادة مسلمى العالم ولا حتى مسلمى مصر لتأسيس الخلافة الإسلامية.
وإقرار مبدأ المواطنة أيضا سيضع حدودا للترهيب الذى يمارسه الإسلاميون بحجة الدفاع عن ثوابت الأمة أو الخروج على الدستور والقانون. فعلى سبيل المثال رفض الإسلاميون فى مجلس الشعب الموافقة على فيلم شفرة دافنشى، لأنه يتضمن عن المسيح ما لا توافق عليه الشريعة الإسلامية التى هى أحد نصوص الدستور، فى نفس الوقت الذى رفضوا فيه سيناريو لفايز غالى ــ وهو مسيحى ــ لأنه سيكتب عن المسيح ما هو مثار خلاف بين المسيحية والإسلام بنفس الحجة، فهل ينبغى أن يعبر فايز غالى ــ المسيحى كما قلنا، والذى يؤمن بالمسيح كما تقتضى أصول العقيدة المسيحية ــ عن رأى الإسلام فى قضايا المسيح والمسيحية، أم أنه وهو كاتب سيناريو سيجد من الأسلم أن يتفرغ لفتح محل للبقالة. وكذلك فعلوا عندما ثاروا تلك الثورة العارمة عندما صرح فاروق حسنى برأيه فى الحجاب ــ وهو مجرد رأى لا فتوى ولا حكم شرعى ــ وتحت تأثير الدفاع عن ثوابت الأمة، وتحت حماية المادة الثانية من الدستور سيقوم من يطالب فى مجلس الشعب بفرض الحجاب على جميع النساء المسلمات باعتباره من المعروف من الدين بالضرورة.
إن مبدأ المواطنة سيلغى القاعدة الشرعية التى تقول: «لهم ما لنا وعليهم ما علينا» إذ سنصبح جميعا سواء أمام القانون ولن يكون بمقدور أحد أن يتحدث باسم جماعة دينية تقرر مالهم وما عليهم. وفى الحقيقة فإن مبدأ المواطنة سيلغى من الأساس الضميرين «نحن وهم»، إذا استخدموا على أساس دينى، فلن يكون بمقدور أحد أن يتحدث عن تمثيله للمسلمين جميعا، وهنا لن يكون هناك «نحن وهم» إلا باعتبارها تعبيرات سياسية وليست دينية، فنحن فى المعارضة أو فى حزب كذا أو نحن أعضاء حركة كفاية مثلا، أو نحن أعضاء نقابة المعلمين... وهكذا.
كما أن إقرار مبدأ المواطنة والتى تعنى المساواة الكاملة قانونيا وواقعيا بين جميع المواطنين، بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية أو غيرها من انتماءات، وهو ما يعنى أيضا وجود قواعد دستورية وقانونية عامة ومجردة ــ هذه المبادئ ستفرض على الإسلاميين تجاوز خطابهم المراوغ على مستوى المفاهيم أو الإجراءات، فعلى مستوى المفاهيم يقدم الإسلاميون خطابا يؤكد سبق الإسلام للأمم المتحدة فى إقرار مبادئ حقوق الإنسان مثلا، ولكن عندما يتعلق الأمر بإقرار سياسات ووقائع محددة، ستجدهم يتحدثون عن إنكار المعروف من الدين بالضرورة، وحدود حرية التعبير وقوامة الرجل وغيرها من مبادئ تجهض حقوق الإنسان من الأساس.
أما إذا انتقلنا إلى مجال المعايير، فينبغى أن نؤكد أن العصر الحديث يتميز بأنه عصر المعايير، بمعنى أن إحدى سمات الحداثة أن هناك معايير واضحة تمنع الاختلافات بين الناس، ومن تلك المعايير: معيار الأغلبية ــ بشرط أن تكون أغلبية سياسية لا أغلبية دينية ــ ومنها أهل الخبرة والاختصاص، ومنها أيضا حرية الإنسان الفرد فيما لا يؤذى الآخرين.
ولكن الخطاب الإسلامى لا يعترف بأى من تلك المعايير، خذ عندك مثلا قضية فوائد البنوك، التى يراها الشيخ طنطاوى شيخ الأزهر حلالا، بينما يعتبرها جمهور غفير من المسلمين ودعاتهم حراما بينا، ما هو المعيار الذى يمكن أن يحدد من منهم على صواب ومن منهم على خطأ؟.
وأخيرا فإن المواطنة ستسعى إلى فصم العلاقة بين السلطة وبين العنف، فالمواطنة تقوم على أساس مأسسة الدولة، فهناك المواطنون المتساوون فى الحقوق والواجبات، وهناك القائمون على صناعة التشريع، وهناك القائمون على القضاء بين الناس وإصدار الأحكام بناء على تلك القوانين، ثم هناك أخيرا القائمون على تنفيذ تلك القوانين من أصحاب السلطة التنفيذية، وفى مثل هذه الحالة سيكون بمقدور أى إنسان أن يفعل ما يشاء، وأن يقول ما يريد حتى ولو كان ما يقوله هو الكفر البواح، أو ما يفعله هو الفسق الصريح، ولن يستطيع إنسان كائنا ما كان أو جماعة كائنة ما كانت أن تتولى بنفسها اتخاذ إجراء بشأنه أو ردعه أو عقابه، وسيكون غاية ما يتاح هو أن تتقدم للنيابة العامة ليأخذ القانون مجراه.
هذه هى المواطنة فانظر كيف تعامل الإسلاميون مع العديد من قضايا الفكر والرأى فى مصر. انظر إلى اغتيال فرج فودة، ونفى نصر حامد أبو زيد، ومحاولة اغتيال المرحوم نجيب محفوظ، وتكفير المستشار سعيد العشماوى والمفكر سيد القمنى ونوال السعداوى،
وانظر إلى مطاردة احمد عبد المعطى حجازى وجابر عصفور وحلمى سالم وجمال الغيطانى وغيرهم.
هذه هى بعض ما أتصوره من أسباب تخوف الإسلاميين من دعاة الدولة الدينية من المواطنة، وهى كما أظن أسباب حقيقية وواقعية أكدت عليها بأقوال وأحداث عرفناها وعشناها ولن ينقذنا منها سوى الشعار الخالد الذى صنعناه بالدم والكفاح «الدين لله والوطن للجميع».