نشر موقع 180 مقالا للكاتب سميح صعب، تناول فيه ردود الفعل الأمريكية والغربية الغاضبة من زيارة الزعيم الصينى شى جين بينج إلى روسيا، موضحا أن بكين لا تقدم على هذه الخطوات مجانا وإنما لأهداف جيوسياسية منها إجهاض الجهود الأمريكية المتزايدة لاحتواء الصعود الصينى... نعرض من المقال ما يلى. إذا تتبعنا مسار زيارة الزعيم الصينى إلى موسكو وما رافقها من أحداث، نلاحظ، ومن دون عناء، أن ردود الفعل الأمريكية والغربية اتسمت بالانفعال أكثر من السلوك الهادئ. فقط قبل ساعات من وصول شى جين بينج إلى مطار فنوكوفو الدولى بموسكو فى العشرين من مارس، أصدرت المحكمة الجنائية الدولية التى تتخذ لاهاى مقرا لها، مذكرة باعتقال الرئيس الروسى فلاديمير بوتين على خلفية اتهامات موجهة إليه بالمسئولية عن ترحيل أطفال أوكرانيين إلى الأراضى الروسية خلال الحرب «من دون سند قانونى»، وهو ما يُعدُ جريمة حرب تستوجب توقيفه. وإصدار مذكرة الاعتقال بهذا التوقيت كان المستهدف فيها شى جين بينج أكثر من بوتين نفسه، وكأن المراد القول للرئيس الصينى أنك تقيم شراكة مع «مجرم حرب» وليس مع رئيس دولة كبرى نووية.
الرسالة الثانية كانت موجهة أيضا إلى الصين تحديدا وإلى دورها المتصاعد عالميا. إذ إنه بالتزامن مع زيارة شى جين بينج، قفز رئيس الوزراء اليابانى فوميو كيشيدا إلى كييف فجأة وذهب قبل مقابلة الرئيس فولوديمير زيلينسكى، رأسا إلى بوتشا فى ضواحى كييف، التى تتهم أوكرانيا الجيش الروسى بارتكاب أعمال قتل بحق المدنيين قبل الانسحاب منها فى أبريل من العام الماضى. كأن المطلوب إبراز صورتين متناقضتين للصين واليابان. شى جين بينج يوطد علاقاته مع دولة معتدية فى المفهوم الغربى بينما يتعاطف كيشيدا مع المُعتَدى عليه. وهذا ما يتسق مع التصنيف الإيديولوجى للعالم بحسب رؤية الرئيس الأمريكى جو بايدن: دول ديموقراطية وأخرى استبدادية!
لم يتأخر الرد الروسى على زيارة كيشيدا إلى كييف، فأرسلت موسكو قاذفات استراتيجية حلّقت فوق بحر اليابان عندما كان رئيس الوزراء اليابانى يتوعد موسكو بمزيد من العقوبات عندما ستعقد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى فى طوكيو فى مايو المقبل.
الرسالة الثالثة التى بعثت بها واشنطن خلال وجود شى جين بينج فى موسكو، كانت الإعلان عن تقديم حزمة مساعدات عسكرية جديدة لأوكرانيا بـ350 مليون دولار، وكذلك افتتاح أول قاعدة عسكرية أمريكية دائمة فى بولونيا. وذهبت بريطانيا خطوة أبعد، بالإعلان عن عزمها تزويد أوكرانيا بقذائف تحتوى على اليورانيوم المستنفد يمكن أن تطلقها دبابات «تشالينجرــ2» البريطانية المنوى تسليمها لكييف قريبا.
علاوة على ذلك، كرّر المسئولون الأمريكيون الحديث عن أن الصين ليست طرفا محايدا فى الحرب كى تكون مؤهلة لطرح مبادرة للسلام. وهم فى ذلك يستبقون اللقاء الافتراضى الذى سيعقد بين شى جين بينج وزيلينسكى فى الأيام المقبلة. الإعلان عن رفع مستوى المساعدات العسكرية الغربية وبينها قرار الاتحاد الأوروبى رصد مليارى دولار لشراء مليون قذيفة لأوكرانيا، الهدف منه ببساطة القول لزيلينسكى إن هذا ليس وقت إيقاف الحرب، وإنما المضى فيها حتى تحقيق انتصار واضح على روسيا.
• • •
لا تُقدِم بكين على هذه الخطوات مجانا، وإنما لأهداف جيوسياسية فى مقدمتها إجهاض الجهود الأمريكية المتزايدة لاحتواء الصعود الصينى. وماذا يعنى تزويد أستراليا بغواصات أمريكية وبريطانية تعمل بالطاقة النووية؟ وماذا يعنى تخلى اليابان أخيرا عن دستورها السلمى والإعلان عن زيادة موازنتها الدفاعية بنسبة هى الأعلى منذ الحرب العالمية الثانية؟ وماذا يعنى تعزيز القواعد الأمريكية فى الفليبين والحصول على تسهيلات من إندونيسيا وماليزيا وفيتنام؟ وقبل أيام فقط سحبت أمريكا مقاتلاتها الحديثة من الشرق الأوسط إلى أرض المواجهة مع الصين وروسيا، ولا لزوم للحديث عن تايوان ولا عن الحروب التجارية وفرض العقوبات بسبب هونج كونج وشينجيانج. هذه وغيرها تدل على اندفاعة أمريكية لتطويق الصين ومطاردة نفوذها، ليس فى المحيطين الهادئ والهندى فحسب، وإنما فى أفريقيا والشرق الأوسط وأوروبا وأمريكا الجنوبية. وبرغم ذلك، فإن أمريكا غير قادرة على الحسم فى حرب باردة على مدى العالم.
رسم شى جين بينج فى موسكو توازنا دوليا جديدا، قوامه عدم التخلى عن روسيا والسعى فى الوقت نفسه إلى إيجاد حل للنزاع الأوكرانى خارج الوسائل العسكرية. وفى مقابل هذه المعادلة، تمضى أمريكا فى وجهة معاكسة، فتضغط على زيلينسكى كى يرفض المبادرة الصينية صراحة، وأن يسعى إلى انتصارات ميدانية جديدة تفضى إلى هزيمة روسيا فى أوكرانيا وبالتالى ترك بوتين يتحمل تبعات مثل هذه الهزيمة فى الداخل الروسى، فى حين تقوى عليه الضغوط الخارجية حتى لا يعود تغيير النظام الروسى أمرا مستحيلا. البحث الأمريكى عن الهزيمة الروسية فى الميدان الأوكرانى يرفع أخطار نشوب مواجهة عسكرية مباشرة بين أقوى دولتين نوويتين فى العالم. إن الصدام الجوى الأول فوق البحر الأسود فى 14 مارس الحالى، عندما أجبرت مقاتلات روسية مسيرة أمريكية من طراز «إم كيوــ9» على الاصطدام بالماء، لم يثنِ واشنطن عن مواصلة النشاط الجوى قرب الحدود الروسية. نشاطٌ تقابله روسيا بطلعات متزايدة لمقاتلاتها فوق قاعدة التنف الأمريكية عند نقطة الحدود السورية ــ العراقية ــ الأردنية. وفجأة يندلع التوتر بين الفصائل الموالية لإيران والقوات الأمريكية فى شرق سوريا. هذا يؤكد أن المتاعب لا تسير فى اتجاه واحد فقط وأن أمريكا نفسها يمكن أن تثار فى وجهها حروب بالوكالة. وعليه لن تبقى حادثة البحر الأسود هى الاستثناء. فى لحظة الوداع خاطب شى جين بينج نظيره الروسى قائلا إن العالم «يشهد تغييرات لم يشهدها منذ مائة عام». هذه المائة عام المشار إليها كانت القرن الأمريكى. ماذا عن المائة عام المقبلة. هنا جوهر الصراع.
النص الأصلي