عن  خرافات القوة الناعمة - محمود محي الدين - بوابة الشروق
الأربعاء 2 أكتوبر 2024 11:36 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عن  خرافات القوة الناعمة

نشر فى : الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 7:50 م | آخر تحديث : الأربعاء 2 أكتوبر 2024 - 7:50 م

من أسوأ ما يبتلى به عموم الناس وصناع السياسات أن تُقتلع آراء من سياقها اقتلاعا فتسلط عليهم، وكأنها باتت من قوانين الطبيعة ونواميس الكون، فتتمتع بحصانة الاستناد إلى أسماء رنانة وتقارير واسعة الانتشار ومؤشرات ومقاييس تلبسها رداء العلم.

ومن المفاهيم السيارة فى الملعب الدولى ما يتردد عما يسمى القوة الناعمة وقدرتها على إقناع الآخرين وتشكيل تفضيلاتهم واجتذابهم وتغيير سلوكهم، من دون اللجوء إلى العنف، وذلك باستخدام أدوات متنوعة للثقافة والفنون وغيرهما. والدولة ذات القوة الناعمة من المفترض أن تحقق التغييرات المرجوة لها دون استغلال لتفوقها العسكرى بالحرب، أو لقدراتها الاقتصادية بتقييد التبادل التجارى والاستثمارات البينية وحركة العمالة أو فرض حظر وعقوبات تجارية ومالية. والدولة بذلك يتحقق لها المراد دون إجبار لغيرها، وفقا لرأى عالم السياسة الأمريكى جوزيف ناى الذى شغل مناصب تنفيذية فى الإدارة الأمريكية، كما كان عميدا لكلية كينيدى بجامعة هارفارد.

والقوة الناعمة، وفقا لجوزيف ناى، ليست يسيرة الاستخدام دائما؛ فمنها ما لا يقع تحت سيطرة الحكومة المركزية وتوجيهاتها المباشرة، كما أن تأثيراتها غير مباشرة وعادة ما تأخذ وقتا طويلا حتى تتشكل وتتطور وتحدث التأثير المطلوب. كما ندرك أن من الأدوات الثقافية والفنون ما قد لا يحظى بقبول الآخر، وقد يثير استهجانا ونفورا. ولنا فيما كان من بعض ما تم عرضه فى افتتاح أولمبياد باريس الأخيرة مَثلٌ.

ويجدر بنا الاستناد إلى الرأى السديد للعلامة ابن خلدون الذى لخّصه فى عنوان فصل فى مقدمته الشهيرة «فى أن المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب فى شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده». ووفقا لهذا؛ فمن العبث الالتفات إلى ما يروّجه البعض عن القوة الناعمة، فيسلخونها منفردة من عناصر القوة الشاملة وعماديها الرئيسيين فى الدول والمجتمعات ذات الاعتبار فى الماضى والحاضر والمستقبل، وهما تقدم الاقتصاد ومتانته، وقوة آلة الدفاع ومنعتها. ومن البديهى ألا يتقدم اقتصاد أى دولة، أو يُطمأن إلى أمنها واستقرارها، إلا بامتلاكها ناصية علوم العصر وفنونه وآدابه. إذن، فهى القوة الشاملة التى يجب أن يعوّل على عناصرها مجتمعة ومكتملة ومتعاضدة، لا بديل عن الناعم الأملس منها أو الصلد الخشن. وما أرى كثرة ترديد مُبالَغ فيه لمآثر القوة الناعمة فى بلدان إلا عند افتقادها لعنصرى المنعة، والقوة الاقتصادية التى لن تجدى، فى غيابهما، أى قوة ناعمة نفعا. كما أن القوة الناعمة لن تحقق أثرها إلا إذا أدرك المخاطب بها أن وراءها قوة ردع، وهجوما إذا اقتضى الأمر لتحمى مصداقية استخدامها. ولا يفيدنا أنصار القوة الناعمة بكيفية قيامها منفردة بتغيير السلوك لمن لا يريد طوعا تغييره، ولا يخبرونا بطرائق معتمدة لتبيان أثرها المرتبط بها وحدها، ولا بأسلوب لتتبع فاعليتها منذ تدشين هذه القوة حتى تبلغ هدفها المراد. لم تغب حتما خصائص ومعالم تنوع القوة الناعمة البريطانية عن باتريك بورتر، أستاذ الأمن الدولى والاستراتيجية بجامعة برمنجهام البريطانية، وهو يكتب مقاله عن المؤشر الدولى للقوة الناعمة وتصنيفاته للدول بين متقدم ومتأخر. فهو لا يحتفى بأن بلاده تتقدم فى هذا المؤشر، ووضعها الدولى الفعلى بمعايير الامتياز والسبق الدولى متراجعة نسبيا فى عام 2024 عما كانت عليه عند أزمة السويس فى عام 1956، عندما ظهر جليا أن الغلبة فى المعترك الدولى لم تعد لبريطانيا، بل كانت للرئيس الأمريكى دوايت أيزنهاور الذى «أقنعها بنعومة» بالتفوق العسكرى والاقتصادى لبلاده. ولم تزل بريطانيا صاحبة الإرث التاريخى العريق تباهى به مبانيها ومتاحفها، وتتنوع مظاهر ما يمكن إطلاق عليه قوى ناعمة من كرة القدم إلى فنون الشاشتين الصغيرة والكبيرة والمسرح، وما زالت تخرج أهم مطبوعات الصحافة ومنتجات الإعلام. ولكن هذا كله، وفقا لبورتر، فى ميزان القوة ما هو إلا «بلسم نفسى» لآثار تراجع الوجود المادى للقوة. إن ما يعول عليه ويستند إليه هو القوة الشاملة فى سباق الأمم. ولنا فى سقوط الاتحاد السوفيتى بآلته العسكرية الرهيبة من دون طلقة رصاص واحدة توجه لكيانه عِبرة. فقد غاب عنه مقوم مهم من مقومات القوة وهو متانة الاقتصاد وتنافسيته وتطوره، بسبب سياسات قضت على بواعث المنافسة وإقدام القطاع الخاص، وكبح الأفكار الخلاقة والإبداع فى مجتمع مع تكبيل الحريات. فهل انعدمت من السوفيت آلتهم العسكرية والنووية الغاشمة، أو منعت رقصات البولشوى، وهى بالمناسبة محسوبة من القوى الناعمة؟ إنها حقا القوة الشاملة التى إن غاب أحد عناصرها تعطلت باقى عناصرها وكأنها لم تكن ناعمة أو خشنة على السواء. لمثل هذا وجّه ماريو دراجى مقولته المحذّرة للاتحاد الأوروبى بأنهم عرضة «لتهديد وجودى». وهذا ملخص للتقرير الذى أشرف عليه بأنهم إن لم يأخذوا بأسباب الاستثمار للتعجيل بالابتكار والتطوير لدفع النمو، وإن لم يستثمروا فى الطاقة الجديدة والمتجددة، وإن لم يستثمروا فى تطوير صناعات المستقبل والدفاع ومقومات التحول الرقمى فمستقبلهم مهدد. قد يرى أبناء عالم الجنوب بنظرتهم لأوروبا أن لها من أوجه التقدم والثراء والحريات ما يكفيها، ولكن يقول المتنبى: ولم أرَ فى عيوب الناس شيئا كنقص القادرين على التمام فما بالك بمن توقف فى سباق الأمم عند منتصف المضمار حائرا، بل ما بالك بمن لم يبدأ بعد فى السباق، منفقاً قدرته فى اقتفاء آثار السابقين وماضيهم السحيق، أو فى ندم لعدم اللحاق بالمتقدمين.

التعليقات