توالت التعليقات على خطاب الرئيس باراك أوباما التاريخى فى جامعة القاهرة قبل إلقائه على أساس التكهن بما قد يتضمنه والإعراب عن التصور والأمل فيما يجب أن يتضمنه فعلا ـ وبعد إلقائه انطلاقا من ردود فعل ـ بعد استماع أو قراءة متأنية أو متسرعة.
وقد شاركت شخصيا فى بعض هذا، ولذلك فضلت عدم الاستجابة للدعوة الكريمة التى تلقيتها من فضيلة شيخ الأزهر والدكتور رئيس جامعة القاهرة للوجود فى القاعة الكبرى للجامعة وفضلت أن أجلس أمام التليفزيون فى منزلى ليس فقط تجنبا لما تصورت أنه سيكون ازدحاما مروريا ـ وهو ما لم يكن ـ ورغبة فى الخروج من حالة الضجيج التى سبقت الخطاب وآخذ فرصة لهدوء قد يسمح بقدر أكبر من الموضوعية فى الحكم بعيدا عن الانشغال بأمور أخرى.
وقد استمعت إلى الخطاب واستمتعت به فى ذلك الجو الهادئ، كما راقبت عن قرب «لغة الجسم» كما يقول التعبير الانجليزى، وأعدت قراءته مكتوبا ثم أعدت قراءته محاولا أن أُكون رأيى بعيدا قدر الإمكان عن التأثر بالتعليقات الفورية التى صدرت عن مختلف الاتجاهات، ومحاولا تجنب الاضطرار للاستسلام للكاميرات والميكروفونات والتليفونات التى تلاقت فى كمائن متحفزة تبحث عن الانطباع الأول الذى قد لا يكون دقيقا بما هو متفق مع جلال «القائل والمناسبة» على حد تعبير البرنامج الإذاعى الأدبى الممتع والشهير الذى كانت تمتعنا به منذ سنوات الإذاعة البريطانية.
ولست أدعى بعد هذا أنى وصلت إلى سبر كل أغوار الخطاب، أو أننى أمسكت بكل تلابيب الحقيقة، ولكنى مع ذلك شعورا بالمسئولية لأننى غامرت بالتكهن والمطالبة والتعليق عليه مسبقا، رأيت أن أعبر عن بعض الانطباعات لعلها تعكس فكرى الذى يجمع بين ما كان مؤملا ثم ما كان بالفعل ثم النتائج العملية التى يجب أن يتمخض عنها ما حدث باعتبار أن واجبنا لا يقتصر على أن نكون متلقين أو مستمتعين بل أن نشارك بإيجابية فى تفعيل ما يجب أن يفعَّل وتصحيح ما قد يحتاج إلى تصحيح.
ولعل ما يلخص فلسفة الخطاب كله أحسن تلخيص هو العنوان الفرعى الذى تضمنته النسخة الرسمية التى وزعها البيت الأبيض على الانترنت وهو «بداية جديدة» يوضح أن الهدف هو طى صفحات سوداء من العلاقات مع العالم كله، وبصفة خاصة مع العالم العربى والإسلامى سطرتها الإدارة السابقة فى أجواء من الهلع والأيديولوجية المتغطرسة الجامدة التى ألقت بالولايات المتحدة ومعها العالم كله فى آتون أزمات سياسية وعسكرية واقتصادية استوجبت ردود فعل خارجية وداخلية أدت إلى انتخاب أوباما رئيسا للولايات المتحدة فيما يعتبر ثورة حقيقية سياسية واجتماعية استطاع فيها الشعب الأمريكى أن يتجاوز كثيرا مما كان يعتبر من الممنوعات أو المستحيلات ليبدأ صفحة جديدة مع نفسه، تعقبها إرهاصات مواقف جديدة نحو الحلفاء والأصدقاء بل حتى الأعداء الحقيقيين أو المفترضين أو المحتملين، ومن هنا فقد استحقت كلمة الرئيس أوباما بهدفها وموضوعها ومكان إلقائها أن يكون الحكم عليها أوسع من اللحظة وأعمق من انطباع متسرع قد تؤثر فيه مواقف مسبقة أو انحيازات مبررة أو غير مبررة.
ومن هنا فإنى أريد أن اكتفى بإبداء بعض الملاحظات الآن انتظارا لمرور وقت كاف يوضح ما إذا كانت الكلمات البليغة المتوازنة الذكية الشجاعة سوف يتاح لها أن تشكل منظومة سياسية متكاملة تستطيع أن تواجه حملات التشكيك والتعويق بسهام تنطلق من مصادر متنوعة وبنيران «صديقة» أو عدوة فاجأها أن ما ورد على لسان أوباما خرج عن النصوص المعتادة التى كان يستفيد منها الاختصاصيون فى معاداة العرب والمسلمين والاختصاصيون فى معادة أمريكا من ناحية المبدأ فى كل مواقفها باعتبار أن منحنيات مسالك سياساتها كانت غالبا ما تنتهى إلى مستنقعات الانكسار أو الخديعة.
وشعورى الشخصى فى هذه المرة أننا نتعامل مع شخص علّمه انتماؤه إلى فئة مظلومة أن يميل إلى العدل، ومع شخص أدى تنوع أصوله واختلاطه بعوالم أبعد من شواطئ الولايات المتحدة إلى أن يكون أقل شوفينية وأكثر انفتاحا على العالم وأقدر على أن يتجاوز الألوان السوداء أو البيضاء لكل صورة ليرى ومضات النور مع الظلال.
وانتقل إلى بعض الملاحظات السريعة:
1 ـ اختار أوباما أن يلقى خطابه فى القاهرة التى تمثل نقطة التقاء بين قارات وثقافات وديانات تجعل أصداء كلماته أمواجا تصل إلى الشرق والغرب والشمال والجنوب من البحر المتوسط إلى أعماق القارة الأفريقية، ومن المحيط الأطلنطى إلى المحيط الهادى. واختار أن يكون لقاؤه بالمصريين بدعوة من كل من شيخ الأزهر ورئيس جامعة القاهرة منارتى العلم الذى يجمع بين عراقة الدينى والعلمانى فى منظومة ساهمت عبر العصور فى التنوير، واختار أن يزور معلما من أهم معالم الإسلام ـ وهو مسجد السلطان حسن ـ الذى يمثل أنقى وأعرق ما أنبته الإسلام فى مجال العلم والهندسة والفكر والانفتاح، ومعلما من أهم معالم الحضارة الإنسانية التى نبتت فى مصر وارتفعت بأهرامها نحو السماء تأكيدا للخلود.
2 ـ جاء الخطاب مستندا إلى دراسة متعمقة للعلاقات التاريخية بين الإسلام والغرب التى عرفت قرونا من التعايش والتعاون، وأزمته من النزاع والحروب الدينية «فى إشارة للحروب الصليبية» والاستعمار الذى حرم كثيرا من المسلمين من حقوقهم وفرص التقدم، مما أدى إلى ظهور فئات متطرفة زادت من التوترات خاصة بعد أحداث 11 سبتمبر، مما أوجد مشاعر من الخوف وعدم الثقة. وبهذا حمل أوباما الطرفين مسئولية التوترات والنزاعات خلافا لما يزعمه البعض من أن الغرب يمثل الخير دائما والشرق يمثل الشر باستمرار، وطالب ببداية جديدة تقوم على المصالح المشتركة والاحترام المتبادل على أساس الاشتراك فى الإيمان بمبادئ التقدم والعدل والتسامح واحترام كرامة الإنسان. ويتحقق ذلك بأن يستمع كل طرف إلى الآخر ويتعلم منه ويحترمه ويبحث معه عن الأرض المشتركة. وبهذا فإن الرئيس الأمريكى يرفض الأفكار التى رسخها سلفه وزمرته حول «محور الشر» وبنى عليها سياسات خرقاء ومدمرة. وقد استند أوباما فى موقفه هذا إلى تجاربه الشخصية بالإضافة إلى ما قدمه الإسلام إلى الإنسانية فاتحا الطريق لعصور النهضة. والتنوير بما جاء به من علوم فى مختلف المجالات وما ضربه من أمثلة على التسامح الدينى والمساواة العرقية. ثم أكد أن الإسلام جزء من التاريخ الأمريكى حيث يوجد 7 ملايين مسلم يشاركون فى الحياة الأمريكية وفى إثرائها. وأن مسئوليته كرئيس مواجهة الصور النمطية المغلوطة عن الإسلام.
كما طالب فى نفس الوقت المسلمين بأن يتخلوا عن الصور النمطية الخاطئة عن الولايات المتحدة التى تحترم الديانات وممارستها إلى درجة أن الحكومة لجأت إلى القضاء من أجل ضمان حق المرأة فى أن ترتدى الحجاب إذا أرادت ومعاقبة من يحاول حرمانها من هذا الحق. وقد أوضحت هذه الكلمات التى اتسمت بالصدق أن الرئيس الأمريكى يريد فعلا مصالحة حقيقية بين العالم الإسلامى والولايات المتحدة بتجاوز الظروف التاريخية التى أدت إلى عهود من العداء والتوتر، وقد عمد أوباما فى حديثه حول هذا الموضوع وموضوعات أخرى إلى أن يستشهد بآيات من القرآن الكريم تؤكد المعانى والتكليفات النبيلة.
3 ـ تحدث الخطاب عن ضرورة مواجهة التطرف الذى يلجأ إلى العنف، وقارن بين حرب أفغانستان التى استدعاها التطرف، وبين غزو العراق الذى سماه «حرب بالاختيار» بمعنى أن الولايات المتحدة ما كان يجب أن تخوضها، وهو فى هذا يتفق مع الآراء التى سمعها سلفه من القيادة المصرية ومن قيادات عربية حذرت من النتائج الوخيمة لحرب يتضح كل يوم ما جلبته من مصائب على الشعبين العراقى والأمريكى وعلى المنطقة، ولعل أهم ما ذكره فى هذا الشأن أن الولايات المتحدة قد أساءت إلى المبادئ التى تؤمن بها، مؤكدا قراراته حول وقف التعذيب وإغلاق معتقل جوانتانامو وأن الولايات المتحدة ستعمل على حماية نفسها مع احترام سيادة الدول وأحكام القانون بالتعاون مع المجتمعات الإسلامية من أجل عزل المتطرفين.
4 ـ وعند تناول ما أسماه الوضع بين الإسرائيليين والفلسطينيين والعالم العربى استطاع أوباما أن يعبر الكثير من الأراضى الملغمة دون أن تنفجر. فقد أكد عمق العلاقة الأمريكية الإسرائيلية التى لا تنكسر ولكنه أكد حق الفلسطينيين فى إقامة دولتهم، وعندما تحدث عن معاناة اليهود على أيدى النازى والمحرقة، تحدث فى الفقرة التالية على معاناة الفلسطينيين من أجل الحصول على وطنهم. وهذه أول مرة يقرن مسئول غربى آلام الفلسطينيين وآلام الإسرائيليين حتى إذا كان ذلك على استحياء.
وليس من شك فى أن الإسرائيليين الذين كانوا يحتكرون دور الضحية سوف يغضبهم الحديث عن شعب عانى على أيديهم عذابا واضطهادا. ولقد كنت أود لو أشار الرئيس فى هذا المجال إلى العدوان الإسرائيلى الأخير على غزة الذى جاء بعد حرب لبنان الوحشية. كما كنت أود لو لم يبد الرئيس أوباما أنه يخلط بين المقاومة والإرهاب، مستندا إلى أن كثيرا من الشعوب حصلت على حريتها دون عنف مع أن حقائق التاريخ ـ من استقلال الولايات المتحدة ذاتها إلى الجزائر وجنوب أفريقيا توضح أن الشعوب تضطر إلى استخدام القوة لنيل حقوقها عندما تسد الأبواب الأخرى على أن تلتزم ببعض المبادئ الأخلاقية التى تفرق بين الإرهاب والمقاومة التى يجب أن تلتزم بها كل الأطراف.
5 ـ تضييق المساحة المتبقية عن ملاحظات أخرى قد يأتى دورها فى التناول، ولكن أريد الآن أن أشير إلى أنه عندما تحدث الرئيس أوباما عن الديمقراطية ومزاياها أبرز نقطتين أساسيتين أولهما أنها تستند إلى قيم عالمية لا يمتلكها شعب أو دولة وحدها.. وثانيهما أنه انطلاقا من تلك الحقيقة فإن الولايات المتحدة لن تحاول فرض آرائها على الآخرين فالشعوب هى التى تبنى ديمقراطيتها احتراما للمبادئ العامة وأخذا فى الاعتبار أوضاعها الخاصة وكانت الدعوة المنافقة لإدارة بوش إلى الديمقراطية ظاهريا بينما هى تستهدف أمورا أخرى قد أضرت بجهود حقيقية ومخلصة لبناء الديمقراطية بدت بعضها كأنها تعمل وفق أجندة أمريكية.
هناك موضوعات أخرى مهمة تناولها الخطاب مثل حرية العقيدة، ومثل دور المرأة، ومثل الأسلحة النووية، والتنمية الاقتصادية وهى كلها أمور مهمة وأساسية ولكن المساحة تضيق بها، وستظل على أية حال المعيار الذى سنحكم به على الرئيس الجديد وقدرته على أن يسير فى الطريق التى رسمها رغم العقبات والصعوبات التى سيضعها فى طريقه كثير من الأمريكيين الذين تضيق عقولهم وصدورهم بمبادئ الحرية والإخاء والمساواة التى أورثتها الثورة الفرنسية لأجيال وأجيال خانها البعض واختار البعض الآخر أن يناضل من أجلها.