غابت عن مسودة الدستور مواد مهمة ينبغى إدراجها فى المسودة أو المسودات التالية. وفيما يلى أمثلة لبعض هذه المواد. لقد غابت مادة تؤكد احترام الاتفاقات والالتزامات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان، وتحظر على أى قانون أو قرار مخالفتها، وتعتبر الاتفاقات والمعاهدات الدولية لحقوق الإنسان التى يصدق عليها البرلمان بنسبة الثلثين فى حكم التعديلات الدستورية، ومن ثم يتعين التعامل معها على أنها جزء لا يتجزأ من الدستور. كما غابت مادة تنص على أنه عندما يحيل الدستور إلى القانون تنظيم حق من الحقوق فإنه يجب ألا يترتب على هذه الإحالة أى مساس بأصل ذلك الحق أو تعطيل لنفاذه، وأن على الدولة أن تنشئ من آليات المتابعة والرقابة ما يؤمن ذلك. ولذا فمن المناسب إضافة مادة خاصة بالمجلس القومى لحقوق الإنسان، مع توسيع اختصاصاته فى مراقبة أوضاع حقوق الإنسان والتحقق من مدى التزام الدولة بتوفير الحقوق المقررة فى الدستور وتعقب حالات التمييز أو إهدار مبدأ تكافؤ الفرص، وإحالة المتسببين فى ذلك إلى القضاء.
●●●
ويجب إضافة مادة تسمح بحق مباشر للشعب فى سحب الثقة من رئيس الجمهورية وأى من المسئولين المنتخبين كأعضاء البرلمان والمجالس المحلية ومن إليهم، وذلك بعد مضى نصف المدة المقررة لمناصبهم، وبمقتضى طلب لإجراء استفتاء عام لهذا الغرض تقدمه نسبة معينة من الناخبين المعنيين. كما ينبغى النص على حق الشعب فى اقتراح مشروعات قوانين إما مباشرة بطلب موقع من نسبة معينة من الناخبين، وإما من خلال طلب مقدم من منظمة مجتمع مدنى لا يقل عدد أعضائها عن عشرة آلاف، مشفوعا بتوقيع ما لا يقل ــ مثلا ــ عن ثلاثين ألف ناخب. كما يجب السماح بحق الشعب فى طلب تعديل مادة أو أكثر من مواد الدستور، بناء على طلب تتقدم به نسبة معينة من الناخبين.
وعموما ينبغى أن تتضمن المواد الخاصة بتعديل الدستور (218 و219) تمييزا واضحا بين الحالات المختلفة لطلب تعديل الدستور. فإذا انصب التعديل على مادة أو أكثر دون مساس بالهيكل الأساسى للدستور، يمكن اشتراط أن يتقدم بالطلب مثلا ما لا يقل عن 5% من الناخبين أو 20% من أعضاء مجلس الشعب، أو رئيس الجمهورية مع تأييد 10% من النواب لطلبه. أما إذا طال التعديل عددا كبيرا من المواد أو الدستور كله، فينبغى زيادة النسب المذكورة بما يناسب التغيير المستهدف.
ومن الجدير بالملاحظة أن المسودة قد تضمنت قيدا لا مبرر له فى زمن يتصف بالتغير السريع، وهو ألا يعدل الدستور قبل مضى خمس أو عشر سنوات (المادة 220). كما يلاحظ أنه بالرغم من أن المادة (219) قد سمحت بتجزئة الاستفتاء على تعديل الدستور إذا اشتمل التعديل على أكثر من مادة ــ وهذا حسن ــ إلا أن المسودة لم تقدم اقتراحا مناظرا بالنسبة للاستفتاء على مشروع الدستور الحالى إعداده. ومن الواجب السماح بإخضاع مجموعة أو أكثر من مواد المشروع لاستفتاء منفصل حتى نزيل عن الاستفتاء على الدستور شبهة تحصيل الحاصل.
وليس من المفهوم لماذا لم تنص المسودة على انتخاب أو حتى تعيين نائب لرئيس الجمهورية للحلول محله إذا نشأ مانع مؤقت أو دائم يحول دون ممارسته لاختصاصاته. فقد أحالت المادة(141) مهمة القائم مقام الرئيس لرئيس الوزراء ــ وهو معين لا منتخب ــ فى حالة المانع المؤقت، ولرئيس مجلس النواب أو لرئيس مجلس الشيوخ فى حالة المانع الدائم. ويفضل استحداث منصب نائب الرئيس، على أن ينتخب المرشح للرئاسة والمرشح للنيابة عنه على بطاقة انتخابية واحدة.
ومن الأمور المهمة التى لم يرد ذكرها فى المسودة: النشاط الاقتصادى للقوات المسلحة الذى اعتبره أحد قادتها خطا أحمر لا يجوز الاقتراب منه. وفى تصورى أنه يلزم إضافة مادة تنص على ضرورة فصل الحسابات والموازنة الخاصة بهذه الأنشطة عن تلك المتعلقة بالنشاط العسكرى للقوات المسلحة، مع إخضاعها لذات القواعد المطبقة على شركات القطاع العام. ومن الأفضل أن يعهد بهذه الأنشطة إلى هيئات مدنية أو دمجها فى أنشطة الهيئات أو الشركات العامة المناظرة.
●●●
من الواضح إذن من فحص مسودة الدستور أن ثمة حاجة شديدة لإدخال الكثير من التعديلات عليها، وأن إنجاز هذه المهمة وما يصاحبها من حوار مجتمعى سوف يحتاج إلى مدة ليست بالقصيرة، وأنه من الخطورة بمكان اختزال هذه المدة بدعوى استباق حكم قد يصدر بعدم سلامة تشكيل الجمعية التأسيسية أو بدعوى الحاجة إلى الإسراع بإجراء انتخابات تشريعية وفق الدستور الجديد لتفادى المزيد من التعطل للآلة التشريعية. فذلك ينذر بإنتاج دستور مبتسر لا يرجى منه أى نفع.
ومما يعقد الأمور اتساع الخلاف حول أهلية الجمعية التأسيسية، ليس فقط بسبب الانتقادات الموجهة لتشكيلها، ولكن أيضا بسبب الخلافات بين أعضاء الجمعية حول أسلوب عملها؛ وهو ما دعا 17 من أعضائها للتبرؤ من المسودة الأولى. والواقع أن الوضع الراهن يتصف بالكثير من التوتر والاحتقان والاستقطاب ليس فقط بين القوى الإسلامية والقوى المدنية، لكن داخل العناصر المكونة لكل من هذه القوى أيضا. كما أن غياب مجلس الشعب، مع تعهد الرئيس بعدم استخدام صلاحيته المؤقتة للتشريع إلا فى أضيق الحدود، يعوق إصدار الكثير من التشريعات التى يمكن أن تهدئ من الاحتقان الحاصل وتتيح فرصا أفضل للتعامل مع الاحتجاجات الاجتماعية، وتوفر بعض الاستقرار، مثل قانون الحريات النقابية وقانون الجمعيات وقانون العدالة الانتقالية.
وقد طرحت فكرة الدستور المؤقت كمخرج من المأزق الراهن، وذلك بافتراض أن فكرة التأقيت يمكن أن ترحل النزاع حول القضايا الخلافية فى الدستور إلى مرحلة لاحقة. وهو افتراض محل شك، لغياب الثقة المتبادلة وحسن النوايا اللازمين لدفع الأطراف المتشددة للتنازل عن تشددها. والمفترض فى الدستور المؤقت أنه سيكون دستورا جزئيا بالنظر إلى تأجيل البت فى عدد من قضاياه. وهو ما يتعارض مع كون الدستور كيان متكامل الأجزاء.، وأنه لا يجوز للبلد أن يتعامل بنصف أو ثلاثة أرباع دستور. كما أنه ليس هناك ضمان لعدم تحول الدستور المؤقت إلى دستور دائم بحجة أن الظروف لا تسمح بإعادة فتح الأبواب للخلافات القديمة.
وفضلا على هذا كله، يمكن القول بأن لدينا بالفعل دستور مؤقت، ألا وهو الإعلان الدستورى المعمول به حاليا. ويمكن الانطلاق من هذه الحقيقة لحل يوفق بين التأنى المطلوب لإعداد الدستور وبين الحاجة لإنجاز التشريعات الضرورية. ويتمثل الحل المقترح فى تراضى السلطة الحاكمة والمعارضة على ادخال عدد من التعديلات على الإعلان الدستورى القائم بما يسمح بإعادة تشكيل الجمعية التأسيسية وفق معايير يتم التوافق عليها، والإعلان عن موعد قريب لإجراء انتخابات مجلس الشعب، وعن موعد أقرب للتوافق على قانون جديد لتنظيم هذه الانتخابات. وبذلك تنتقل سلطة التشريع من الرئيس إلى المجلس المنتخب وتبدأ الآلة التشريعية فى الدوران. وفى الوقت نفسه تبدأ الجمعية التأسيسية الجديدة عملها، على أن تأخذ الوقت الكافى لإعداد مشروع دستور يبنى على ما هو إيجابى فى المسودة الحالية ويسد ما فيها من ثغرات.
●●●
وبديهى أن الاتفاق على مثل هذا الحل يقتضى تصحيح العلاقة بين السلطة الحاكمة والمعارضة. ومما يساعد على ذلك تعهد الجميع باحترام الآليات الديمقراطية، وإقرارهم أن الساحة السياسية،بما فى ذلك الميادين، ليست حكرا لأى طرف، وإطلاق مبادرات من جانب السلطة مثل فك الارتباط بين جماعة الإخوان وبين حزب الحرية والعدالة والرئاسة، وتقنين وضع الجماعة، وكذلك مبادرة القوى المعارضة بتهدئة الأجواء والتخلى عن التصرفات الاستفزازية، والتركيز على مد الجسور مع الجماهير وعلى كسب تأييدها لبرامجها، باعتبار ذلك أول الطريق للتداول السلمى للسلطة.