التخطيط الغائب والتنمية المتعثرة فى بلادنا - إبراهيم العيسوى - بوابة الشروق
السبت 28 ديسمبر 2024 5:32 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التخطيط الغائب والتنمية المتعثرة فى بلادنا

نشر فى : الخميس 13 يناير 2011 - 9:48 ص | آخر تحديث : الخميس 13 يناير 2011 - 9:48 ص

 بينت فى مقال سابق أن سياسة التنمية التى شهدتها مصر فى ظل الحكومات التى تعاقبت عليها منذ إعلان الانفتاح الاقتصادى فى أوائل السبعينيات من القرن العشرين هى سياسة تتجاهل دروسا جوهرية أفرزتها التجارب التنموية التاريخية الناجحة، وأن هذه الحكومات لم تمتلك رؤية استراتيجية أو تصورا مستقبليا يساعد على تحقيق الانطلاقة التنموية التى تتطلع إليها بلادنا، وذلك لأن مثل هذه الرؤية لا مكان لها فى إطار ترك الأمور لقوى السوق ولأهواء قطاع خاص مازال يفتقر إلى النضج ولا يملك مشروعا وطنيا للتنمية. وقد أظهرت هذه النتائج أن ثمة حاجة للتوقف أمام ثلاثة أمور تجسد فساد رؤية النظام الحاكم لقضايا التخطيط والتنمية، وفيما يلى بيان لهذه الأمور:

الأمر الأول هو أن التخطيط قد فقد إمكانات التنفيذ، ولم يتبق من التخطيط فى الواقع سوى مظهر باهت، وهو وثائق الخطط التى يجرى وضعها، والتى تعتمد من دون مناقشة جادة من برلمان أبعد ما يكون عن التمثيل الحقيقى للشعب، وذلك لأسباب أفاض الكثيرون من الكتاب فى شرحها إبان انتخابات مجلس الشعب الأخيرة. وإذا كان أهل السلطة يردون على ذلك بأن التخطيط الذى يقصدونه ويمارسونه هو التخطيط التأشيرى أو التخطيط بالمشاركة، فإننى أرد على قولهم هذا بأن سياساتهم للإصلاح الاقتصادى قد أطاحت بأية فرصة يمكن الاعتداد بها حتى لأى من هذه الصور المخففة للتخطيط.

فالتخطيط التأشيرى له أدوات ضرورية، ولكن معظم هذه الأدوات لم يعد متاحا، بعدما فتحت الدولة الاقتصاد على مصراعيه وانضمت إلى الاتفاقات الجائرة لمنظمة التجارة العالمية، وبعد ما سارت وفق سياسات التحرير والخصخصة التى يروجها البنك الدولى وصندوق النقد الدولى و«الصديق» الأمريكى، وبعدما قنعت الدولة بدور المنظم والمراقب والمحفز، وهى لا تملك من أدوات التنظيم والرقابة والتحفيز إلا القليل غير مضمون النتائج، خاصة فى ظل دولة لا يتمتع فيها القانون بالسيادة، وفى ظل حكومات لا تحترم أحكام القضاء، وفى ظل قطاع خاص النسبة الغالبة منه منشآت صغيرة ومتناهية الصغر يصعب توجيهها والتحكم فى مسارها ما لم ترتبط بعدد من المنشآت الإنتاجية الكبيرة، أما التخطيط بالمشاركة فلا سبيل إلى تفعيله فى ظل نظام سياسى غير ديمقراطى، لا يعترف بحق المواطن فى المشاركة فى أى مجال.

صحيح أن الرئيس كرر فى خطاباته الأخيرة أنهم يستهدفون «توسيع قاعدة المشاركة الشعبية»، «والتوسع فى اللا مركزية»، وتعزيز نطاق «المشاركة والرقابة الشعبية» من جانب المحليات، ولكن شتان بين هذه الشعارات وبين التصرفات العملية للنظام الحاكم الذى دأب على الاحتفاظ لحزبه بحق احتكار الحياة السياسية، الذى دأب ــ من خلال لجنة الأحزاب التى يسيطر عليها ــ على اختيار معارضيه، والذى يصر على استمرار حالة الطوارئ طوال ثلاثين عاما متوالية، والذى لا يتورع عن تزوير الانتخابات على اختلاف أنواعها.

الأمر الثانى هو أن الطبقة الحاكمة تتمسك بمفهوم عتيق للتنمية يكاد يحصرها فى النمو الاقتصادى، أى زيادة الدخل القومى، مضافا إليه ما يطلق عليه البعد الاجتماعى، أى إجراءات الدعم والضمان الاجتماعى وما إلى ذلك وحتى عندما يتحدث أهل النظام عن التنمية البشرية فإنهم يقصدون بها ما لا يزيد كثيرا على ما يطلق عليه تنمية الموارد البشرية من خلال التعليم والرعاية الصحية، وهم فى ذلك لا يسيرون على الطريق الصحيح، الذى يوسع كثيرا من مفهوم التنمية ويجعلها مساوية لمفهوم الحرية، بمعنى أن التنمية تعنى تحرير الوطن والمواطن اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا. فالتنمية مفهوم شامل متعدد الأبعاد، ولم يعد من المستساغ اختزاله فى النمو الاقتصادى المضاف إليه بعد اجتماعى.

كما أنه ليس من المنطقى الفصل بين زيادة الإنتاج من جهة، وعدالة التوزيع ومكافحة الفقر من جهة أخرى. ذلك أن ما يتقرر بشأن الإنتاج يحدد إلى مدى بعيد صورة توزيع الدخل وحالة الفقر. وها هنا تظهر أهمية التخطيط الذى أخذ فى الظهور فى مصر فى بداية العهد الثورى بحكم الضرورات العملية، وقبل الدخول فى مرحلة «التحول الاشتراكى». فقرارات الإنتاج تشمل تحديد ماذا ننتج (قمح أم فراولة؟، وسيارات أم أوتوبيسات؟، ومساكن اقتصادية أم قصور؟ ..إلخ)، وكيف ننتج (أى ما هى أساليب الإنتاج أو التكنولوجيا المستخدمة؟، وهى مسألة وثيقة الصلة بقضية التشغيل والبطالة)، ولمن ننتج (أى ما هى الطبقات أو الفئات المرشحة للحصول على هذا الإنتاج؟) وليس من الصعب إدراك أن هذه القرارات ــ إلى جانب التوزيع الابتدائى للثروة ــ هى التى تحدد من سيتمتع بثمار التنمية، ومن سيحصل على فرص عمل، ومن سيخرج من دائرة الفقر.

يقول الرئيس: «سيظل البعد الاجتماعى للنمو والتنمية فى قلب تحركنا خلال المرحلة المقبلة نسعى لتوسيع قاعدة العدالة الاجتماعية نجتهد كى نخرج بالفقراء من دائرة الفقر، وإيلاء الرعاية الواجبة للأسر الأكثر احتياجا»، وهذا كلام جميل، ولكنه يفتقر إلى وسائل فعالة لتحقيقه فى إطار السياسات المتبعة؛ فالتحكم فى قرارات الإنتاج المؤثرة فى نمط توزيع الدخل والتفاوت الطبقى ومستوى الفقر غير ممكن مع غياب التخطيط وإحالة الأمر إلى آليات السوق والقطاع الخاص وفرص تحسين توزيع الدخل ومكافحة الفقر غير قائمة فى ظل نظام ضريبى لا يعرف من التصاعدية إلا الشكل، حيث إن النظام الضريبى القائم هو من الناحية العملية نظام للضريبة الموحدة، وتتضاؤل فرص تحسين مستوى معيشة السواد الأعظم من الشعب ــ الفقراء وذوى الدخول المنخفضة بل وبعض شرائح الطبقة الوسطى ــ فى ظل الاتجاه لخصخصة التأمينات الاجتماعية وخصخصة التأمين الصحى وتحويل الرعاية الصحية فى المستشفيات العامة من خدمة اجتماعية إلى نشاط ربحى، وفى ظل الاتجاه إلى سياسات الاستهداف فى مجال الدعم.

الأمر الثالث هو أنه لم يعد من المقبول الحديث عن حديث عن النمو أو التنمية دون التعرض لقضية الاستدامة أو الاطراد وخلافا لما هو شائع، فإن هذه القضية لا تنحصر فى الاستدامة البيئية، أى ما يتعلق بالحفاظ على الموارد الطبيعية ومكافحة التلوث ومواجهة التغيرات المناخية (لاحظ أن مصر تفقد سنويا نحو 60 ألف فدان من الأرض الزراعية بسبب البناء على هذه الأراضى، كما تتعرض المياه والطاقة لألوان شتى من الهدر.

أما عن التلوث، فلمصر سجل محزن فيه) بل إن استدامة التنمية لها أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية فالاستدامة الاقتصادية تتعلق بتحقيق معدلات عالية للادخار تكفى لتحقيق استثمارات تحافظ على الأصول القائمة وتزيدها (لاحظ أن معدل الادخار فى 2009/2010 لم يزد على 14%، وهو ما يقل عن ثلث ما تحقق فى بلدان النمور الآسيوية: 30 ــ 40%، بل وما يزيد على 50% فى بعض الدول وفى بعض السنوات) والاستدامة الاجتماعية تتعلق بالتماسك الاجتماعى ومكافحة التمييز الدينى والعرقى والطائفى، وإفساح المجال لنمو الروابط والمنظمات التى تكفل التواصل والتعاضد بين الناس (تذكر هنا ــ على سبيل المثال ــ الانتهاكات المختلفة لمبدأ المواطنة، وقوانين الجمعيات والنقابات التى تصادر الحق الدستورى فى التنظيم والتجمع). والاستدامة السياسية تتعلق بتوفير أطر للمشاركة الديمقراطية فى اتخاذ القرارات، وكفالة حقوق التنظيم والتجمع والتظاهر السلمى والمساواة أمام القانون، وحرية التعبير والنشر (تذكر هنا ــ على سبيل المثال أيضا ــ قانون الأحزاب، وقانون الطوارئ، والمادة (76) والمادة (88) من الدستور، والممارسات العملية ــ بخاصة على يد الأجهزة الأمنية ــ لإجهاض الكثير من الحقوق المكفولة فى الدستور والقوانين).

لم يعد يستقيم للتنمية معنى دون اشتمال مفهومها على هذه الأنواع المختلفة من الاستدامة، ولكن الملاحظ ــ وفقا لدراسة أشرفت على إنجازها وشاركت فيها مع مجموعة من الباحثين فى معهد التخطيط القومى ــ أن استدامة النمو والتنمية لم تكن يوما من أولويات النظام الحاكم فى مصر، وأنها لم تزل بعيدة عما يوضع من سياسات أو خطط.

وفى الختام أود أن أشير إلى بعض القضايا التنموية التى مر الرئيس عليها مرور الكرام التى لا تلقى من الحزب الوطنى وحكومته ما يتناسب مع خطورتها من اهتمام، وكذلك بعض القضايا سكت عنها خطاب الرئيس لسبب أو لآخر. من أمثلة القضايا من النوع الأول ما يلى:

1 ـ الفقر: تقدر نسبة الفقراء حسب ما يسمونه خط الفقر الأعلى المقدر فى 2008/2009 بنحو 2800 جنيه فى السنة بنحو 42%، وربما تصل النسبة إلى 60% أو أكثر إذا استخدمنا خط فقر إنسانى يكفل للفرد حياة كريمة، ومع ذلك تتمسك الحكومة بأن نسبة الفقراء 21.6% اعتمادا على تقدير بالغ الانخفاض لخط الفقر، وهو ما يطلقون عليه خط الفقر الأدنى (2224 جنيها فى السنة)، والظاهر من تعامل الحكومة مع مشكلة الفقر واسع الانتشار أنها تفترض أنه يمكن حل هذه المشكلة بمعزل عن قضية التنمية الشاملة. وهو افتراض خاطئ بالطبع.

2 ـ التفاوت الطبقى: حسب البيانات الرسمية يحصل الخمس الأفقر من السكان على 9.3% من الدخل الكلى، بينما يحصل الخمس الأعلى من السكان على 40.2%، أى 4.3 مثل نصيب أفقر خمس من السكان، وفى الحقيقة أن التفاوت أشد كثيرا من ذلك على أرض الواقع، وذلك لعيوب معروفة فى الإحصاءات، وفى ضوء المشاهدات العملية لأحوال الأغنياء والفقراء فى مصر. ولا يبدو أن هذه قضية تشغل بال النظام كثيرا، حيث لا تتوافر سياسات جادة للتعامل معها.

3 ـ الصناعة التحويلية: نسبة مساهمة الصناعة التحويلية فى الناتج المحلى الإجمالى لم تزد على 17% فى 2009/2010. وهى تقريبا النسبة التى حققتها مصر ــ ولكن فى ظل نظام مختلف تماما ــ فى أواخر الستينيات من القرن الماضى. فهل يجوز للدولة أن تقف موقف المتفرج على وضع كهذا بحجة أن التصنيع مهمة القطاع الخاص؟ وهل يجوز لها السكوت على وضع كهذا بعدما عجز القطاع الخاص عن إنجاز هذه المهمة، مع أن التصنيع هو عصب التنمية، ومعقد الآمال فى حل قضايا انخفاض الدخل والبطالة والفقر، وغيرها من المشكلات؟!

4ــــ الدين العام: ازداد الدين العام الخارجى من 29.6 مليار دولار فى نهاية يونيو 2006 إلى 34.7 مليار دولار فى نهاية سبتمبر 2010 وهو ما أدى إلى زيادة متوسط نصيب المواطن المصرى من هذا الدين من 402 دولار إلى 411 دولارا، وارتفع الدين العام المحلى من 370 مليار جنيه فى نهاية يونيو 2003 إلى 889 مليار جنيه فى نهاية سبتمبر 2010. وهو ما يعنى زيادة متوسط نصيب المواطن المصرى من هذا الدين من 5347 إلى 10520 جنيها أى أن كل مواطن مصرى مدين حاليا بمبلغ 12575 جنيها مصريا؛ وهو ما يساوى 81% من متوسط دخل الفرد فى 2009/2010. فهل هذا الدين «تحت السيطرة وفى حدود آمنة»، كما قال الرئيس فى خطاباته؟ بالقطع، لا.

قضية الطاقة: اكتفى النظام بمواجهة هذه القضية بقرار إنشاء محطات نووية باهظة التكاليف ومحفوفة بالكثير من المخاطر لتوليد الكهرباء، وبالسعى للتخلص من دعم الطاقة، مع اعتماد برنامج محدود للوصول إلى نسبة 20% من الطاقة المنتجة من مصادر متجددة، مع أن الأولوية كانت يجب أن تتجه للطاقة الشمسية والطاقة البيولوجية (المنتجة من المخلفات الزراعية وغيرها) وطاقة الرياح. وطبعا لا يمكن تناول هذا الموضوع دون التعرض لقضية البحث العلمى ولمأساة تصدير الغاز إلى إسرائيل، وهو ما لا يتسع له هذا المقال.

وثمة قضايا أخرى لم يتعرض لها الرئيس فى خطاباته، لسبب أو لآخر منها قضية الأمن الغذائى، وهى القضية التى تركت فيما يبدو لوزير الزراعة الذى تضاربت تصريحاته بشأنها، ولا يبدو أنه يعتبرها من المسائل الجديرة باهتمام خاص فى السياسة الزراعية. ومنها قضية فوضى السوق وشيوع الاحتكار فى الكثير من أسواق السلع الاستراتيجية والغذائية، ومنها قضية العشوائيات التى لا يلوح فى الأفق حل قريب لها. ومنها قضية الحد الأدنى للأجور التى ربما اعتبر الرئيس أنها قد حسمت بقرار المجلس القومى للأجور باعتبار هذا الحد الأدنى 400 جنيه شهريا، مع قصر التطبيق على القطاع الخاص، وذلك بدعوى عدم اختصاص المجلس بالأجور فى القطاع الحكومى والقطاع العام حسب التفسيرات الخاطئة لوزير التنمية الاقتصادية، مع أن المبلغ المذكور لا يزيد على ثلث التقدير، الذى تتمسك به قوى نقابية ونشاط اجتماعيين وسياسيين وهو 1200 جنيه شهريا؛ وهو تقدير معقول حسب بحثى للموضوع، والذى توصلت فيه إلى أن الحد الأدنى للأجور بأسعار سبتمبر 2010 هو 1221 جنيها، وأخيرا نذكر الأزمات اليومية التى يعانيها المصريون، التى أصبحت أزمات مزمنة، مثل تراكم القمامة فى الشوارع، والازدحام المرورى، وتحول الشوارع إلى مواقف للسيارات مما يعوق السير فيها، مع تزايد عدد السيارات بسبب فتح أبواب الاستيراد على مصراعيها والتخفيض التدريجى للجمارك على السيارات المستوردة من كل من الاتحاد الأوروبى وتركيا بحيث تلغى كلية فى 2019 و2020 على التوالى، ومع التوسع فى مصانع تجميع السيارات التى لا تسهم على نحو ملموس بقيمة مضافة للبلد، وفوضى الإسكان، حيث يختلط الإسكان العائلى مع الإسكان الإدارى والخدمى والتجارى، وأزمات البوتاجاز والسلع الغذائية المختلفة، وحوادث الطرق التى تفتك بحياة الآلاف كل عام.

هل بعد هذه القائمة من المشكلات التى لا تمثل إلا قليلا من كثير، يمكن قبول ما قاله الرئيس من أن سياسة الإصلاح الاقتصادى «أعطت قوة جديدة للاقتصاد ودفعت لانطلاقه بمعدلات قوية»، وأن الحزب الوطنى وحكومته قد حققا «إنجازات أحدثت تغييرا كبيرا بجميع مناحى الحياة»؟ وهل يمكن أن نطمئن إلى قول الرئيس بأن «ثمار التنمية» سوف تصل «لمن لم تصل إليهم بعد من الفقراء والمهمشين؟ لا يحتاج المرء أن يكون حاصلا على دكتوراه فى الاقتصاد كى يجيب عن هذه الأسئلة بالنفى، وكى يدرك أن التنمية عصية فى بلادنا لأن أولى الأمر قد حادوا عن الطريق الصحيح لتحقيقها.

إبراهيم العيسوى  استاذ الاقتصاد بمعهد التخطيط القومى
التعليقات