عاصفة من الاختلالات - من الفضاء الإلكتروني «مدونات» - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 9:22 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عاصفة من الاختلالات

نشر فى : الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:15 م | آخر تحديث : الجمعة 14 فبراير 2020 - 8:15 م

نشرت مدونة الديوان التابعة لمركز كارنيجى مقالا للكاتبة «مهى يحيى»... نعرض منه ما يلى:

تُواجه الحكومة اللبنانية، التى شُكلت أخيرا، معارك عاتية تتعلق بالتصدى لتحديات كبرى اقتصادية وسياسية، وسيكون نجاحها ضروريا وحاسما لتعافى لبنان وديمومته.

فقد بات جليا الآن أن لبنان يمر بعاصفة كاملة تتزايد حدتها يوما بعد يوم، حيث تتخبط البلاد فى لجج انهيار اقتصادى، يفاقمه انسداد الأفق السياسى. وكل ذلك يجرى فى خضم أزمة شرعية أوسع نطاقا، لأن شطرا وازنا من الشعب فقد ثقته فى قيادته السياسية. النظام اللبنانى لم يعد يعمل بفاعلية، وما لم يتم الاتفاق على عقد اجتماعى جديد بين المواطنين والدولة ستنزلق البلاد إلى حمأة الفوضى.

الآن، الأولوية للحكومة الجديدة برئاسة حسان دياب هى إبطاء السقوط الحر الاقتصادى والمالى اللبنانى. للقيام بذلك يتعين عليها معالجة سلسلة أزمات فى آن. فمع وصول الدين العام إلى نحو 150 فى المئة من الناتج المحلى الإجمالى، يجب على الحكومة السيطرة على الإنفاق والعثور على وسائل لتعويض ديونها. وهذا لن يكون بالأمر السهل مع العجز فى ميزان المدفوعات الذى يتغذى من العجز التجارى المتواصل، والذى يتوقع أن يصل إلى 8 مليارات دولار فى نهاية العام 2020. وما يفاقم من كل ذلك حقيقة أن الركود العميق فى البلاد يقضم عائدات الحكومة، إلى درجة أن الاقتصاديين يتوقعون أن يصل عجز الموازنة فى العام الحالى إلى 3 مليارات دولار، هذا عدا دفعات الفوائد.

اليوم، ومع وجود زهاء نصف أصول المصارف فى الدين السيادى للبلاد وفى البنك المركزى، ومع وجود ربع الأصول فى شكل ودائع قطاع خاص خطرة، فإن المصارف تفتقد عمليا إلى السيولة وربما يكون بعضها متعسرا. وقد أوقفت المصارف معظم الأنشطة المصرفية العادية، وبذلك لم تعد مصارف سوى بالاسم. وعلى الرغم من فرض قيود مصرفية غير فعالة على الرساميل أخيرا، إلا أن القطاع يشهد تدافعا لسحب الإيداعات. فى الأحوال العادية، كان مصرف لبنان يوفر السيولة للمصارف، إلا أنه مُقيد اليدين هذه الأيام بسبب توافر حجم محدود من الدولارات، وبفعل المخاوف من أنه إذا ما عمد إلى ضخ ليرات لبنانية فى الاقتصاد، قد يفاقم ذلك انخفاض العملة المحلية.

***
محصلات كل ذلك كانت كارثية على اللبنانيين. فمنذ اندلاع الاحتجاجات فى 17 أكتوبر الماضى واستقالة رئيس الحكومة السابق سعد الحريرى فى 29 أكتوبر، ازدادت الأوضاع الاجتماعيةــ الاقتصادية ترديا. فالقيود غير الرسمية على الإيداعات وعلى السحوبات النقدية تبث الرعب فى أوصال الناس، فيما يحاول هؤلاء الحصول على إيداعاتهم التى جمعوها بشق الأنفس. ثم إن خفض خطوط الائتمان دفع الاقتصاد إلى الجمود، مع توقع نمو سلبى يتراوح بين 5 و10 فى المئة العام 2020. الشركات تُغلق أبوابها والبطالة ترتفع باطراد. وفى السوق الموازى، خسرت الليرة 30 فى المئة من قيمتها، فيما لبنان يتحول بسرعة إلى اقتصاد نقدى.

وهكذا، أصبح الإفلاس، والفقر المتمدد، والانحدار العام فى مستويات المعيشة، من سمات الحياة لدى العديد من اللبنانيين. فثمة الآن نحو 760 ألف شخص فى حالة فقر مُدقع، أى أنهم يعيشون بأقل من 4 دولارات فى اليوم. وفى الوقت نفسه، شهدت التدفقات المالية هبوطا حادا. وحتى الآن، أقدم سبعة أشخاص على الانتحار فى الشهر الماضى كنتيجة مباشرة للأزمة الاقتصادية.

وسائل معالجة هذا الوضع الاقتصادى والمالى الكارثى متوافرة. وقد وضعت مجموعة لبنانية من الاقتصاديين وخبراء المال والتنمية أخيرا خطة للمساعدة على التغلب على الأزمات بطريقة تضمن تشاطر الأعباء على نحو متساوٍ، وحماية الفئات السكانية الأضعف. وهنا يجب أن نذكر أن 151 دولة عاينت أزمة مالية من هذا النوع أو ذاك منذ حقبة السبعينيات. من بين هذه الدول، واجهت نسبة 2 فى المئة فقط صدمات مالية ونقدية ومصرفية متزامنة كتلك التى يعيشها لبنان الآن. يُشار كذلك إلى أن البلدان التى أعادت هيكلة ديونها حصدت دعما دوليا كان كافيا للخروج من الأزمة والاقتراض مجددا.

هذا يوضح أن كيفية تصدى صناع السياسة للتحديات أمر مهم. وهنا تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة، يتم فى إطارها تنفيذ سياسات مختلفة بشكل متوازٍ، كجزء من استراتيجية أكبر. لكن البرلمان اللبنانى أقر الأسبوع الماضى موازنة العام 2020 التى افترضت حدوث خفض وازن فى خدمة الدين، من دون خريطة طريق توضح كيفية تحقيق ذلك، ومن دون تقديرات لتأثيره على تراجع قيمة العملة والتضخم.

***
يتطابق هذا المنحى فى الواقع مع أنماط السلوك السياسى فى البلاد. فعلى الرغم من الاحتجاجات والأزمة الاقتصادية الحادة، واصل السياسيون العبث ووضع أجنداتهم الشخصية والسياسية فوق مصلحة لبنان. وقد استغرقهم الأمر ثلاثة أشهر لتشكيل حكومة جديدة، وحتى حينها احتفظوا بتمثيلهم فى النظام ونشطوا لحماية امتيازاتهم.

بيد أن هذه المأساة ليست قصرا على الآنى والحاضر. فهى تتعلق أيضا بالمستقبل وما يعنيه ذلك للأجيال اليافعة من اللبنانيين. فالإجراءات قصيرة المدى على الجبهة الاقتصادية ستجعل الإصلاح أصعب، وستُغرق الأجيال التى لم تولد بعد بالديون. ثم أن العمل على الجبهتين الاقتصادية والمالية، وعلى الرغم من أنه حاجة ماسة، فإنه غير كافٍ. وما أظهرته أشهر من الاحتجاجات من جانب شرائح مختلفة من المجتمع، هو أن لبنان فى حاجة إلى عقد اجتماعى جديد وعملية سياسية متجددة. لماذا؟

لأنه يكمن خلف الظروف الاقتصادية المتدهورة أزمة شرعية عميقة، تدفع الناس إلى النزول إلى الشوارع للتنديد بالطبقة الحاكمة وبالحكومة التى شكلتها. لقد دعا المحتجون إلى إجراء انتخابات برلمانية مبكرة ورئيس جديد. وهذه المطالب دافعها انعدام الثقة بمعظم مؤسسات الدولة والروابط والهيئات الاجتماعية، الخاصة والعامة.

تعكس استطلاعات الرأى هذا المزاج الشعبى. فوفقا لاستطلاع أجرته مؤسسة «بيو» فى العام 2018، قال 77 فى المئة من اللبنانيين إنهم لا يثقون بأن حكومتهم ستقوم بما هو صائب للبنان، فيما اعتبر 84 فى المئة من الأشخاص المستطلعة آراؤهم أن الوضع الاقتصادى سيئ فى البلاد. وعبرت غالبية تتراوح بين 80 و85 فى المئة عن عدم ثقتها بمؤسسات الدولة، ومن ضمنها البرلمان، والأحزاب السياسية، والحكومة. كذلك، تهاوت ثقة اللبنانيين فى النظام المصرفى، وسط حالة من الاستقطاب الشعبى حيال دور قُوى الأمن.

تضرب هذه الأزمة جذورها فى النموذج السياسى والاقتصادى السائد فى لبنان منذ استقلاله فى العام 1943. على المستوى السياسى، كرس الميثاق الوطنى نظاما قائما على تقاسم السلطة على أساس طائفى. وفى غضون ذلك، اعتُبر لبنان جمهورية تجارية، اقتصادها موجه نحو الخدمات، ويستند إلى ركنَين أساسيين هما السرية المصرفية والسياحة.

أُعيد تكريس هذا النموذج فى تسعينيات القرن المنصرم، فى أعقاب الحرب الأهلية اللبنانية، وتحديدا خلال مرحلة إعادة الإعمار. فالتسوية السياسية التى أنهت الحرب مأسست على نحو متزايد نموذج تقاسم السلطة على أساس طائفى. فى فترة ما بعد الحرب، حرص السياسيون الطائفيون الذين شاركوا فى الحرب على تقاسم الثروات الوطنية مع بعضهم البعض لتعزيز شبكات المحسوبية التابعة لهم.

فى موازاة ذلك، عهدت سورية، التى اضطلعت بنفوذ كبير فى لبنان بين 1990 و2005، بدور أساسى إلى حزب الله، ما حول البلاد إلى معقل «مقاومة» ضد إسرائيل وحلفائها. وفيما أُعيد بناء منطقة وسط بيروت لتكون مركزا للترف والرفاهية، كان حزب الله يعد جيشه على بعد بضعة كيلومترات فقط. واليوم، أصبح الحزب مدافعا رئيسا عن النظام الطائفى الفاسد، فى وجه التغيير الذى يطالب به المتظاهرون، ذلك أن النظام القائم يحمى الحزب وسلاحه.

يعكس الجانبان اللذان يميزان طابع لبنان الفصامى ــ أى تجانب الجمهورية التجارية مع منظمة عسكرية تتبع أجندة مقاومة ــ التوازن الإقليمى الهش الذى كان قائما فى السنوات الأولى من مرحلة ما بعد الحرب. فصورة لبنان كمركز تجارى منفتح على العالم العربى والغرب جسدت مصالح كلٍ من السعودية، التى كانت أحد الأطراف الفاعلة فى تسوية ما بعد الحرب، وممثلها الأساسى فى لبنان رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريرى. وصورة لبنان كمعقل «للمقاومة» جسدت مصالح إيران وسورية، التى كانت الطرف الإقليمى الثانى فى اتفاق إنهاء الحرب. يُشار فى هذا الصدد إلى أن هذين الطرفين أفادا من مواصلة النزاع مع إسرائيل، كلٌ لأسبابها الخاصة. واليوم، لم يعد هذا التفاهم الضمنى قائما وسط الخلاف السعودى مع إيران وسورية.

يُعتبر الانهيار الاقتصادى فى لبنان مؤشرا آخر على أفول نموذج ما بعد الحرب. فقد تراجعت تدفقات الرساميل التى دعمت إنفاق الدولة، ولاسيما تلك الواردة من دول الخليج. ويُعزى ذلك جزئيا إلى انخفاض أسعار النفط التى أثرت فى مداخيل المغتربين اللبنانيين فى الخليج، وإلى الشعور العارم بأن لبنان أصبح معقلا إيرانيا.

بات واضحا للبنانيين أيضا أن همومهم الاقتصادية تقع فى صُلب التداعيات الناجمة عن أزمة الحوكمة. فالنظام الطائفى الذى يعانى من الخلل فاقم ثقافة الفساد والهدر، ما سمح للطبقة السياسية بنهب البلاد، وللنخبة الحاكمة بإساءة استغلال الفرص على حساب غالبية المواطنين. لم تستفد أى طائفة منفردة من النظام القائم، بل تراجعت سبل عيش جميع اللبنانيين. فى غضون ذلك لايزال السياسيون مصممين على تسجيل النقاط السياسية حرصا منهم على حماية مصالحهم فى ظل نظام سياسى واقتصادى لم يعد قادرا على تحمل هذا التصرف.

تتطلب الأزمة السياسية العميقة التى يغرق لبنان فى لُججها راهنا حلولا بعيدة المدى يكرسها مسار سياسى يعيد بناء الثقة فى المنظومة القائمة. ويجب أن يُستهل هذا المسار بإجراء انتخابات مبكرة، بموجب قانون انتخابى يحظى بالصدقية، ويستعيد الشرعية البرلمانية. فى موازاة ذلك، لابد من إطلاق عملية وطنية ترمى إلى إعادة النظر فى الإطار السياسى اللبنانى. ويجب أن يكون ذلك بمثابة رؤية يشعر فيها جميع اللبنانيين بأن مخاوفهم وهمومهم تلقى آذانا صاغية، وإلا فلن يرضى اللبنانيون ببساطة أن يتحملوا أعباء الإصلاحات والتعديلات الاقتصادية الضرورية بصمت، فيما يحصد قادتهم السياسيون مكاسب نظام سياسى فاقدٍ للصدقية.

النص الأصلى:

التعليقات